...........................................
عدتُ من هذا المعسكر، معسكر الإسماعيلية، ممتلئ النفس بمحبة الأساتذة جميعا، شِيبًا وشُبَّانا، إذ رأيت منهم وجوها جديدة غير تلك التي نألفها في المحاضرات.. وكان للدكتور أسامة الحظ الأوفى من تلك الوجوه الجديدة التي اكتشفتها ومن هذه المحبة العظيمة أيضا. وقعت تلك المحبة في نفسي رغم أنني لم أكلمه من قبل كلاما شخصيا قط، ولم يدر بيننا حديث فردي حتى تلك اللحظة، غير أنني كنت أحب أن أجلس قريبا منه دائما لأستمع إلى أحاديثه مع زملائه من شباب المعيدين، في الساعات المتأخرة من الليل، وهم جلوس على مقاعد رُصَّت على الشاطئ، وقد وَضَعَ الجميع أقدامَهم في الماء يُداعبها الموجُ الرائح الغادي . . كانوا جميعا يجلسون قريبا من الماء، ما عدا الدكتور أحمد محمود، فقد كان يجلس بعيدا، ولم يكن يضع قدميه في المياه مع الواضعين، لأنه كان وما زال يخشى الماء ويتهيب أمواج البحر! وكان ذلك موضع تندر وفكاهة عظيمة من صديقه الدكتور أسامة.
عُدْتُ أحملُ هذه الروح العذبة الجميلة المُحِبَّةَ للكلية ولأساتذتها، أتابع أخبارَهم، وأحب معرفة شئونهم العلمية وغيرها، فقد ناقش الدكتور محروس بريك رسالته للماجستير، في الصيف، بعد العودة من هذا المعسكر بيوم أو يومين، وكان الدكتور محمد فتحي قد نوقش في رسالته للدكتوراه قبل ذلك بقليل، ونوقش الدكتور أحمد بلبولة كذلك في رسالته للماجستير، ثم ناقش الدكتور أسامة رسالته للماجستير عندما بدأت الدراسة في العام التالي، فكان يوم مناقشته يوما مشهودا، حرَصْتُ على حضوره، وما كان لي أن أتخلف مهما كانت أهمية المحاضرات التي تزامنت مع وقت المناقشة.
كان مدرج (3) وهو أكبر قاعات الكلية، قد امتلأ عن آخره، بالأساتذة والطلاب، وكان في صدارة الجمع أستاذنا الحبيب الجليل الدكتور شفيع السيد والد الدكتور أسامة، وقد بدا عليه سيماء الفرح والغبطة والسعادة ، ولم أكن في ذلك اليوم أقل سعادة منه، فقد كانت محبته رسخت في قلبي كذلك منذ درس لي «المدخل إلى البلاغة العربية» في الفرقة الأولى. كنت سعيدا لسعادته بولده، وقد ارتدى، وهو الأنيق دائما، بدلة جديدة بهية اللون، ورأيته يروح ويجيء أمام المدرج قبل وصول لجنة المناقشة والحكم، يوزع نقودا جديدة لم تُستعمل من قبل، من فئات مالية مختلفة، على العمال وعلى غيرهم ممن يستحقون!
كنت سعيدا في ذلك اليوم سعادة غامرة، وكأنني أنا صاحب العرس، أو أنني من سيحصل على درجة الماجستير بعد قليل، كنت فرحا لفرح الدكتور شفيع، ولسعادة الدكتور أسامة وأهله الكرام!
حَضَرَتْ لجنة المناقشة وجلست على المنصة بين الزهور. الدكتور محمد بلتاجي حسن العالم الجليل المشرف على الرسالة يجلس شامخا بين الدكتور محمد نبيل غنايم، والدكتور عبد اللطيف عامر الأستاذ بكلية الحقوق جامعة الزقازيق. بدأت وقائع المناقشة فطلب المشرف من الدكتور أسامة أن يلقي بيانه عن رسالته، فتحدث أسامه ببيانه الرائق العذب ولسانه المنطلق البليغ، فأبان عن موضوعه وأجاد، «الفكر الفقهي عند محيي الدين ابن عربي» عرض موضوع رسالته فأثنت عليه اللجنة خيرا، ومما أذكره من وقائع ذلك اليوم، أنه كان قويا في ردوده، يقارع أعضاء لجنة المناقشة الحجة بالحجة، حتى لقد يختلط الأمر على من لا يعرف نظام المناقشة فلا يُدرى المناقِشُ مِنَ المُناقَش!
ومن طريف ما يروى في ذلك اليوم مما يدل على تمكن الدكتور أسامة ورسوخ قدمه في الدفاع عن أطروحته، أن الدكتور نبيل غنايم أخذ عليه أنه نسي إثبات همزة قطع في بيت شعر أورده في الرسالة، ذكر الدكتور غنايم هذه الملاحظة اللغوية اليسيرة في حُمَّيا الأخذ الرد حول القضايا الفقهية الكبرى، ورأى أن ذلك خطأ كتابي قطعيُّ وقع فيه أسامة ولا سبيل لدفعه، وإذا بالدكتور أسامة يبتسم عند تلقي السؤال ابتسامة المنتصر، ويرد عليه في صوت خفيض: إنما حذفت هذه الهمزة في هذا البيت عن قصدٍ تسهيلا لمراعاة الوزن العروضي، ولو أثبتت الهمزة لانكسر الوزن يا أستاذنا! فابتسم الدكتور غنايم، وأقرَّه على ما قال! وشعرتُ بأن الدكتور أسامة، وكان يُثْمِلُهُ الانتصار، وجَدَ حلاوة ذلك في نفسه، ووجدْتُها معه كذلك!
ومن أجمل ما قيل في ذلك اليوم، مما احتفظتْ به أذني من كلام لجنة المناقشة، عبارة وَرَدَتْ في حديث الدكتور محمد بلتاجي حسن عليه رحمة الله، في التعليق الختامي على ملاحظات المناقشين قبل إعلان الحكم، قال ما فحواه أو نصه: لقد أحسن أسامة في كتابة هذه الرسالة كل الإحسان، وأزعم أنني لو كتبتُها أنا، ما كنت لأكتبها على نحو أفضل مما كتب أسامة!
....
في صيف ذلك العام الحافل 2003م كانت وجهة المعسكر هي مدينة «بلطيم». كنت بين الطلاب، وكان الدكتور أسامة مدرسا مساعدا جديدا بين هيئة الإشراف.. في هذا المعسكر كانت ثلاثة أعوام قد مضت على رؤيتي الأولى للدكتور أسامة أمام مدرج «سكشن الشريعة»، ثلاثة أعوام مرت على معرفتي به، وشغفي بشخصيته العلمية الرصينة المرحة في آن! ثلاثة أعوام لم يدر بيننا فيها حديث شخصي قط، ولم تسنح فرصة بكلام، غير أنني في المعسكرات كنت أحب، ومعي بعض الطلاب، مجالسة الأساتذة في خلواتهم لنسعد بعذب حديثهم الشخصي المفارق لكلامهم في المحاضرات، كنا نستأذنهم في ذلك فيأذنون لنا، وكما كنت أسعد بمجالستهم على الشاطئ وأقدامهم تعبث بالمياه في الإسماعيلية، سعدت في بلطيم بمجالستهم وهم مستلقون على الأسرَّة يتسامرون في الخيام، كنت أجد لذلك سعادة ولذة كبيرة تفوق كل لذة سواها! وكنت أعلم أن لي زملاء لم تتح لهم فرصة المشاركة في هذا المعسكر، وفي هذه الجلسة، ولو علموا بما أنا فيه لحسدوني عليه!
كان الحوار دائرا بين الأساتذة الشباب، في مسائل أدبية وحياتية مختلفة، ونحن نستمع إليهم، وإذا بالدكتور أسامة يحول دفة الحديث فجأة إليَّ وإلى من معي من الطلاب، يسأل عن أحوالنا، ويطلب التعرف إلينا وإلى أوضاعنا الدراسية وهواياتنا، ومن أي البلاد جئنا، إلى غير ذلك من الأسئلة. فأخبرته باسمي وبلدتي، وذكرت له أنني فرغت من الدراسة في الفرقة الثالثة، وأنني حصلت في هذا العام على تقدير ممتاز، وأنني من أوائل الطلاب، فالتفت إلي وأبدى اهتماما كبيرا وترحيبا لم أتوَقَّعه، وقال: لَمَ لَمْ تُخبرني من قبل بأنك من أوائل الطلاب؟! فقلت وقد امتلأت جوانحي بالسعادة: لم أجِدْ مسوغا يدعو لذلك، أو لم تسنح فرصة، وقد سنحت الآن حين تَفَضَّلْت بالسؤال! فبَالغَ في الاهتمام مرة أخرى وقال: كان ينبغي لك أن تخبرنا لأنك سوف تصبح زميلا لنا إن شاء الله!!
كدت أطير فرحا بعبارته هذه: «سوف تصبح زميلا لنا إن شاء الله»! يا ألله! إن ذلك هو غاية المنى، لكنها أمنية كانت كامنة صامتة، ثم ها هي يُصَرَّح بها الآن لأول مرة بلسان الدكتور أسامة الذي رأيته وعرفته وأحببته قبل سنين، ولم أكلمه قط حتى هذه اللحظة، وحين كلمته وكلمني بشرني بهذه العبارة التي ملأت نفسي غبطة وسعادة!
عرف الدكتور أسامة أنني من أوائل الطلاب، فسعد لذلك سعادة رأيتها في مدى إقباله عليَّ واحتفائه بي، وكان يحب المتفوقين القارئين، رأيته وكأنه لفرط سعادته لا يُصدق ما أنبأته به، وكأنما أراد أن يستوثق من صحة كلامي، أو من مدى أهليتي لذلك، أو أنه أراد أن يثبت لنفسه أن سعادته بالتعرف إليَّ لم تخطئ محلها، فكان بيده كتاب مختارات من شعر المتنبي، عنوانه «الدهر المنشد / المتنبي»، صدر عن مكتبة الأسرة، كان يقرأ منه على زملائه من الأساتذة ويستقرئهم في هذا المجلس ويتناقشون حوله.. وإذ به حين أخبرته أنني من أوائل الطلاب، يشركني معهم في الحديث، ويدفع إليَّ بالكتاب، ويقول افتحه واقرأ لنا شيئا من الشعر، فأمسكتُ بالكتاب، وفتحته فتحا عشوائيا،
فوقع بصري على قول المتنبي:
إِذا أَنتَ أَكرَمتَ الكَريمَ مَلَكتَهُ ** وَإِن أَنتَ أَكرَمتَ اللَئيمَ تَمَرَّدا
وَوَضعُ النَدى في مَوضِعِ السَيفِ بِالعُلا ** مُضِرٌّ كَوَضعِ السَيفِ في مَوضِعِ الندى
ألقيت هذه الأبيات حتى نهاية القصيدة أو حتى نهاية المقطع المختار، فأحسنت إلقاءها، وكنت أراها لأول مرة، ومن عجب أنني لم أدرس للمتنبي نصا واحدا طوال سنوات الدراسة في الكلية! ألقيت هذه الأبيات فابتسم الدكتور أسامة وأثنى على إلقائي خيرا، وأشاد بصحة النحو والضبط ووضوح الألفاظ، وغير ذلك مما قال ساعتها إنه يفتقده في كثير من الطلاب، فامتلأت نفسي بالسعادة والغبطة مرة أخرى. وشعرت بشيء من الرضا لأنني لم أخيبْ ظنه، وقدمت الدليل على صدق كلامي!
انتهى هذا المجلس الجميل، واستمرت فقرات المُعسكر ومسابقاته ومحاضراته وجولاته الحرة، وأنشطته الرياضية والثقافية، وأنا ممتلئ سعادة لثناء الدكتور أسامة عليَّ عند أول حديث بيننا، لكني لم أجد فرصة أخرى لحديث آخر معه خلال المعسكر، حتى حان موعد صلاة المغرب في أحد الأيام، فذهبنا إلى مصلى المعسكر، وانتظم المصلون في الصفوف، وانتظرنا أن يتقدم الدكتور أسامة ليؤمنا في الصلاة كعادته، فهو أستاذنا وأكبرنا سنا وأحفظنا للقرآن وأعذبنا صوتا، لكنني فوجئت به يدفعني للوقوف في مكان الإمام، فدهشت لذلك وأبيت أن أتقدم عليه، فقال تقدم، وصل بنا، فإنني أريد أن أستمع إليك. فصليت بهم المغرب، وقرأت ما تيسر من القرآن، فلما قضيت الصلاة وهممنا بالانصراف، تأبط ذراعي، وقال مبتسما: «ما شاء الله صوتك نَدِيّ». فكانت هذه هي العبارة الأخرى التي ملأت نفسي سعادة في ذلك المعسكر، وعدت منه وكأنني حققت كل ما أريد!
-------------------------------------------------------
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: