خزانة الأديب : بقلم الدكتور محمد متولي
صفحات من «كتاب الصداقة والصديق» (4)
......................................................
سعدت سعادة كبيرة ببدء التعارف الشخصي إلى الدكتور أسامة في معسكر بلطيم، وهو تعارف طال انتظاره وترقبه، وقد أرضى نفسي كثيرا أن يحمل لقاء التعارف بذور البشارة التي تؤذن بتحقق الأمنيات الكامنة: «إنك سوف تصبح زميلا لنا». وقد ضاعف من سعادتي وأثلج صدري ثناؤه على صوتي، ذلك الثناء الذي كنت أتوقعه من قبل ولم أظفر به في «سكشن الشريعة». وقد رأيت أن أعبر له ولنفسي عن سعادتي تلك بعمل أعمله، وكان على مقربة من باب المعسكر «كافتيريا» صغيرة، ففكرت في أن أدعوه وزملاءه من المعيدين إلى شيء يسير من الطعام والشراب، ثم خالجني الشك في قبولهم الدعوة، فقد لا يقبل المعيدون وهم في صفوف الأساتذة دعوة طالب إلى طعام أو شراب، ثم تفكرت وكانت ما تزال تزايلني عبارته، «إنك سوف تصبح زميلا لنا»، فقلت أعابث نفسي: وما يمنعهم من قبول دعوة زميل لهم منتظر!
ظلت الفكرة تراودني حتى اقتربت منه عشاءً، وهو في جمع من أصحابه، وكانوا جميعا كعادتهم يتحاورون، وقلت له إنني سعيد بوجودكم معنا، وأريد أن «أعزمكم» على آيس كريم، وأرجو أن تقبلوا دعوتي، ونفسي تحدثني أنكم إن شاء الله فاعلون! فابتسم ابتسامة رائقة وقبل الدعوة، فأسرعت إلى الكافتيريا، واشتريت خمسة «كيمو كونو» كان ثمنها جميعا في ذلك الوقت خمسة جنيهات، وشرعت في تفريقها عليهم، فتوقف بعضهم في قبولها بعض توقف؛ لكنه أومأ إليهم وطلب منهم أن يقبلوها مني فقبلوها، فسعدت بذلك السعادة كلها، وأعجبني كثيرا إدراكه طبيعة نفسي وما يدور فيها، وميله إلى جبر خاطري!
لما شرعوا جميعا في تناول الآيس كريم، مر بنا أحد طلاب المعسكر، وكان زميلا قاهريا خفيف الظل، فاقترب قائلا: «اللي ياكل لوحده!»، قال ذلك يعبر عن رغبته في المشاركة، فناداه أسامة وضاحكه وأعطاه ما تبقى معه، فتناوله الزميل وأتى عليه، فخالجني لذلك شعور كان مزيجا من النقمة الفكهة على الزميل الذي حالت فكاهته دون أن يُتم أسامة تناول ما دعوته من أجله، والشعور بحرص أسامة على ألا يحرم أحدا شيئا طلبه، وهو قادر عليه!
انتهى هذا المعسكر ورجعت إلى بيتي سعيدا بما كان، وبخاصة تلك العبارة «إنك سوف تكون زميلا لنا»، وتذكرت زيارة قديمة كانت قد أعدتها إدارة رعاية الشباب إلى مجمع اللغة العربية بالقاهرة، كنت فيها من الطلاب، وكان الدكتور أسامة مع بعض أصحابه كذلك من المشرفين على الرحلة، وكم وددت في ذلك اليوم لو كنت زميلا لهم حقا، فقد نعمنا -نحن الطلاب- بالتقاط بعض الصور التذكارية مع الدكتور شوقي ضيف رئيس المجمع، ومع الدكتور كمال بشر، رحمهما الله، لكننا لم نظفر بمثل ما ظفر به المعيدون ومعهم أسامه من هدايا المجمع القيمة، فقد أُهدي إليهم في ذلك اليوم عدد كبير من الكتب، من بينها عدة الأجزاء التي كان المجمع قد فرغ من إنجازها في ذلك الوقت من المعجم الكبير، ولم يكن للطلاب من هدايا المجمع إلا نصيب يسير.
تخرجت في الكلية بعد هذا المعسكر بعام كامل، لم يكن فيه بيني وبين الدكتور أسامة لقاء أو كلام، ثم عينت معيدا عقيب التخرج، وطُلب إليَّ المشاركة في أعمال الكنترول والامتحانات، ووقع اسمي في جداول التوزيع ضمن كتيبة ضخمة من الشيوخ والشباب على رأسها مدير تنفيذي حاذق فكه هو الدكتور إبراهيم ضوة عليه رحمة الله.
من طرائف الأقدار أن يقع اسمي مع ثلة مباركة من الهيئة المعاونة ممن سبق لبعضهم أن درس لي في السكاشن والمحاضرات، منهم الدكتور حجاج أنور والدكتور محروس بريك، وكان معهما الدكتور أسامة، فسعدت لذلك السعادة كلها، وبخاصة أن الأعمال التي أسندت إلينا في الكنترول كانت متشابهة، وكنا ننجزها معا في وقت واحد وفي مكان واحد. كان عملنا يبدأ بعد انتهاء عمل اللجان، وكان متعلقا بإخفاء أسماء الطلاب على أورق الإجابة ووضع الأرقام السرية ونحو ذلك. كان الدكتور ضوة يسند إلى كل منها مائتي ورقة ينجزها وينتهي بذلك عمله، وقد كان أسامة أسرعنا إنجازا لمهمته، ثم يميل في كل مرة إلى زميل له تأخر في الإنجاز فيساعده حتى ينتهي من عمله كذلك، ليفرغ الجميع من أعمالهم ثم نلتقي في حجرة المعيدين، للحديث والضحك وشرب الشاي والماء البارد ونحو ذلك.
أعادت إلى هذه الجلسات روعة الجلسات القديمة في المعسكرات على الشواطئ وفي الخيام، لكنني الآن أشارك في حديث الأساتذة بعد أن أصبحت زميلا لهم، كما بشرني أسامة في معسكر بلطيم، لكن يبدو أن مرور عام أو عامين على هذا المعسكر كان قد أن أنسى الدكتور أسامة ما كان بيني وبينه فيه من مواقف صغيرة قصيرة عابرة، رسخت في نفسي!
كنت أنعم بحديث الأساتذة الزملاء، لكنني لم أكن أجد له في هذه الجلسات تلك الحلاوة القديمة؛ بسبب غصة مؤلمة كانت قد ملأت نفسي في ذلك الوقت، وحالت دون الاستمتاع بكل شيء، حتى بحلاوة التعيين معيدا جديدا بعد طول جد ومثابرة، إذ كنت قد سقطتُ ضحية بريئة لا تقوى على المقاومة، بين براثن صراعات عنيفة تندلع أحيانا بين الأساتذة في الأقسام العلمية يكون ضحيتها الطلاب وشباب المعيدين، فقد كنت أعددت خطة بحث للماجستير، اقتنعت بها واستفرغت جهدي في إتقانها، لكن تسجيلها في ظل الصراعات المحتدمة كان ضربا من المستحيل، وطُلب إلي البحث عن موضوع آخر للتسجيل، لأسباب غير مقنعة، فسِرْتُ في الناس منقبضا لا أكاد أسمع ولا أرى!
كنت أجلس مع الأساتذة الزملاء الشباب على الطاولة الضخمة في حجرة المعيدين بعد انتهاء عمل الكنترول، وهم يتحدثون ويضحكون. كنت أجلس معهم جسما صامتا ووجها شاحبا مشغولا بهمي العظيم، فلما لاحظوا ما أنا عليه دعوني إلى الكلام فلم أجد ما أقول! ولم يكن أحد منهم يعلم من أمري شيئا. ولما أوشكتْ إحدى هذه الجلسات المتكررة على الانتهاء، وهمَّ الجمع بالانصراف، وكان وجودهم يؤنسني ويخفف عني، كأنما أردت أن أستبقيهم ولو قليلا، فاقتربت من الدكتور أسامة، وكنت أراه كعادته يبسط هيمنته على المجلس بعلمه وظرفه وفصاحته، قلت له أحاول استبقاءه واستبقاءهم: «ما تعرفش موضوع أسجل فيه الماجستير في النقد؟!»، فنظر إليّ نظرة فيها شيء من الحدة، تنبئ عن رأيه في هذا السؤال العجيب، الذي يشي بضعف صاحبه، وقال: «مثلك يُسأل عن هذا يا مولانا!»، ثم انصرف! وانصرفت. .
آلمني رده، فقد كنت طرحت عليه هذا السؤال، لا أطلب موضوعا على الحقيقة، لأنني كنت أعددت موضوعا جيدا، ولكنني أردت أن أفتح بهذا السؤال مجالا للكلام معه، ولأخبره بمعاناتي، ثم أطلعه على خطة البحث التي أعددتها وأتقنتها، وبموقف القسم منها، ثم أعرف رأيه وأسأله، وهو الحصيف، عن طريق للخلاص، لكن يبدو أن سؤالي لم يكن موفقا، فجاء جوابه على هذا النحو مُسكتا.. خالف جوابه توقعي فحزنت لذلك حزن من خاب أمله! وعدت إلى البيت وقد زادت مرارتي!
ظللت على هذه الحال حتى جاء اليوم التالي من أيام الامتحان في الأسبوع نفسه، ففرغنا جميعا من عمل الكنترول، واجتمعنا كما هي العادة على الطاولة الكبيرة في حجرة المعيدين، ودار الكلام والضحك والفكاهة، فحاولت أن أتخفف من كآبتي قليلا، وأن أشاركهم الحديث، فحكيت لهم موقفا طريفا مررت به، فأغرقوا جميعا في الضحك، وبخاصة أسامة، فقد ضحك ضحكا لم أتوقعه! ثم فوجئت به يقول لزملائه: يبدو أن متولي فكه وظريف جدا، إنه اكتشاف جديد لنا اليوم، فما رأيكم في أن نضمه إلى صحبتنا؟! فقالوا والله فكرة طيبة، وأيدوا ذلك جميعا، وقرروا أن يتخذوني صديقا لهم، وكان هذا القرار الجميل على مرأى ومسمع مني!
سعدت لذلك سعادة شديدة، وساورني الأمل في أن هذه الصداقة الجديدة ستنتشلني من تلك الوهدة النفسية السحيقة التي ترديت فيها، لكنني عجبت من موقف أسامة، جذبه إليّ موقف ضاحك عابر، وصدَّه عني سؤالي عن موضوع للماجستير! لكنني فطنت فيما بعد بطول الصحبة إلى أن أسامة محب للقوة، ويكره الضعف حين يكون في غير محله، فقد أظهر حكيُ الموقف الفكه جانبا قويا بارزا في شخصيتي، لفته ولفت زملاءه إلي، أما طلب موضوع للماجستير، فقد بدا في نظره موقفا مستنكرا، ولا شك عندي في أنه لم يعجبه أن يلجأ معيد نابه إلى من يختار له موضوعا للماجستير في صلب تخصصه، والأصل أنه أكثر الناس إحاطة بفنه! والحق كما سبقت الإشارة، وكما سيأتي التفصيل، أن هذا السؤال لم يكن يعبر عن حالي! وإنما اتخذته كما وسيلة لبدء حديث جديد لاستبقائهم، ولكن المحاولة باءت بالفشل!
لماذا التفت أسامة إلى ضحكي بقوة، ولماذا كان الضحك هو الشرارة الأولى التي جذبته إلي، كما أنه كان الشرارة الأولى التي جذبتني إليه من قبل في المعسكرات؟ الحق أن حب الضحك والبراعة في خلق أسبابه كانا من أبرز الصفات المشتركة بيني وبينه، على اختلاف بيننا في ذلك بطبيعة الحال! وقد وجدت تفسير ميله الشديد للضحك فيما بعد في بعض خواطره، في تفسيره للمقولة الشهيرة «تكلم حتى أراك»، حيث لم يقصر دلالة الكلام الكاشف عن الرؤية هنا على ما يحمله من الآراء والأفكار ودلالاتهما على عقل المتكلم وفطانته، ولكنه كان يرى أن للعبارة صلةً كذلك بصورة المتكلم وطريقته في النطق والتعبير، فقد ترى متحدثا فتقبل عليه، وقد ترى آخر فتنقبض وتصدف عنه! ثم علق على هذا الفهم بقوله: «ولذلك تعلمت ألا أقطع بتمام رؤيتي لامرئ حتى أشاهده متكلما، ثم ضاحكًا».
ومن عجب أنه لم يكتف بالكلام في تأكيد رؤية المتكلم ومعرفته، وإنما نجده يقرن بالكلام بالضحك، فإذا كان أصل المقولة: «تكلم حتى أراك»، فكأن أسامة، لحاجة في نفسه، يريد أن يجعلها «اضحك حتى أراك»، ولعل هذا الضحك هو الذي جعله يراني ويلتفت إلي حين ضحكت، ولم يرني على هذا النحو من الوضوح حين تكلمت! وقد قال في تعليل ذلك إن الإنسان وحده يختص بالضحك دون سائر المخلوقات المشاهَدة، وهو من أبرز آيات الدلالة على الأشخاص، وعلق على ذلك يقول: «والحق أنني لا أعلم شيئًا يُبرز صفحة النفس ومطويَّ الضمير كالضحك، وقد دلت وقائع الحس والمشاهدات على أن بعض الناس إذا ضحك تسللت محبته إلى القلوب رأسًا، وبعضهم إذا ضحك مُقت، ولاحقته اللعنات. والخلاصة أن مشاهدة المرء ضاحكًا أصل من أصول «رؤيته»، أو الوقوف على حقيقته».
وهكذا وقف أسامة على حقيقتي من خلال ضحكي، كما وقفت من قبل على حقيقته من خلال ضحكه، ثم كان الضحك من بعد سببا في توقيع عقد صداقة وثيقة بيننا، حررناه على الفور في ذلك اليوم في هذا المجلس على تلك الطاولة الكبيرة في حجرة المعيدين، وشهد توقيعه ثلة مباركة من الأساتذة الأصدقاء الشباب، ثم تغير مجرى الحياة تغيرا كبيرا منذ ذلك اليوم!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: