الدكتور محمد متولي ـ رحمه الله ـ : صفحات من «كتاب الصداقة والصديق» الجزء الثاني

شارك :
الدكتور محمد متولي يكتب عن صديقه الدكتور أسامة شفيع



خزانة الأديب :
صفحات من «كتاب الصداقة والصديق» (2)
بقلم الدكتور محمد متولي

..........................................

وقفت فإذا هو، بعد أن أنهى محاضرته، قادم من بعيد . . .
رأيت شابًّا فتيًّا مُشرقَ الوجه، ظهرت على مُحَيَّاهُ سيماء النعيم، معتدل القامة، ممتلئ الأعضاء، أنيق الهيئة حسن الثياب، يمشي مشية جادة، بالغ في شعوري بجديتها بصرٌ حادٌّ ينطلقُ من عينين له واسعتين، وهو يمشي ولا يتلفت، فوقع في نفسي شعور مختلط، كان مزيجا من الإعجاب بالهيئة البهية الجادة التي آزَرَها ثناءُ الطلاب، والرهبة الناشئة من قوة المشي وحدة البصر. اكتفيت في ذلك اليوم برؤيته، وحال شيء عظيم من شعور الغريب بالرهبة دونَ الكلام، فرجَعْتُ إلى حيثُ أقيم!


في المدينة الجامعة، تكثر أحاديث المساء، وتدور أغلبُ أحاديث السمر عن الأساتذة والمعيدين، وعن قاعات الدرس وما يجري فيها، وقد لفتني حديث أحد الزملاء، وكان فصيحا حسن الصوت في تلاوة القرآن، قال إن الدكتور أسامة أعجب بصوته وبفصاحته في المحاضرة، حتى لقد أنابه عنه في إلقاء خطبة الجمعة القادمة في مسجد مدينة المبعوثين التي يقيم فيها في مواجهة المدينة الجامعية، وهو في مسجدها إمام راتب، وذكر زميل آخر أن الدكتور أسامة سعد بفصاحته وقوة بيانه في المحاضرة فكافأه على ذلك بأن أهداه كتابا، وذكر ثالثٌ أنه لقى لنفسه مكانا ومكانة عند الدكتور أسامة، فلا تكاد تمر محاضرة دون أن يطلب منه القراءة، أو يطلب منه الإجابة عن سؤال عجز بقية الزملاء عن الإجابة عنه، إلى غير ذلك من الأنشطة والمهام التي يطرب لها الطلاب النجباءُ كُلَّ الطرب حين يؤثرهم الأستاذ بها دون غيرهم!


وددت لو كنتُ معهم، فما أجملَ شعور الحظوة عند الأستاذ، وبخاصة حين يكون من أهل الفضل والمروءة المشهود لهم بالعلم! لكنني لم أنعم بشيء من هذا، في ذلك الوقت، فلم أكن من طلابه في قاعة الدرس، ولم يحدث بيننا لقاء قط حتى انتهى العام الأول، والعام الذي بعده، وكنت أظهرتُ في هذين العامين تفوقا ملحوظا، وتقدُّمًا في الترتيب بين أوائل الطلاب، فتلقفتنا «إدارة رعاية الشباب»، ودَعَتْنا إلى معسكراتها الصيفية التثقيفية الترفيهية في مدن مصر الساحلية، في بلطيم وفي الإسكندرية وفي بورسعيد والإسماعيلية وغيرها. في هذه المعسكرات رأيت الدكتور أسامة متحدثا لأول مرة، في محاضرات عامة يشارك فيها غيره من الأساتذة، أو مسابقات ثقافية يعقدها بين الطلاب، أو في حفلات السمر، تلك الحفلات الرائعة الرائقة، التي كان يحمل عبئها كله أو جله على عاتقه، إعدادا وتنظيما وتقديما.


رأيت منه في هذه المعسكرات جانبا جديدا لم يعرفه طلابه في المحاضرات، أو ربما رأوه ولم يظهروا على كامل حقيقته، فإذا كان الطلاب قد عرفوا علمه وفضله وفصاحته في نطاق الدرس، فقد خرج ذلك كله إلى حيز العمل والتطبيق في مجالات أخرى رأيتها في المعسكرات، وقد ظهر إلى جوار ذلك الجانب الفَكِه المرح الآسر.. فقد أظهر الدكتور أسامة من الفكاهة والمرح وخفة الظل ما لا مزيد عليه، حتى لقد كنا نَوَدُّ إذا تحدث ألا ينتهي الحديث، وإذا أدار حفل السمر، وددنا لو استمر السمر حتى الصباح، فقد كان لحديثه ودعاباته وخفة ظله وهو يحمل الميكروفون ويتحرك جيئة وذهابا على مسرح الحفل، بعباءته الصيفية اللطيفة، أمام الحاضرين من الأساتذة والطلاب- كان لذلك كله وقْعٌ جميل على نفوس الجميع، وقعٌ كان أرقَّ من النسمات اللطيفة التي جاءت تداعب وجوهنا خلال الحفل، بعد أن لامست صفحة المياه عند الشاطئ القريب.


حضرتُ مع الدكتور أسامة معسكر الإسماعيلية في يوليو 2002م، وقد شهد هذا المعسكر جمع كبير من الأساتذة الكبار والشباب، وفي مقدمتهم الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف والدكتور أحمد كشك عميد الكلية، والدكتور شفيع السيد، والدكتور عبد الواحد علام، والدكتور علي عشري زايد، والدكتور عبد الفتاح عثمان، والدكتور عبد الحميد مدكور، والدكتور السعيد الباز والدكتور محمد يونس وغيرهم، وحضره كذلك من الشباب الدكتور محمد فتحي والدكتور حجاج أنور والدكتور محروس بريك، والدكتور أحمد محمد، والدكتور خالد فؤاد أبو العلا، وكان بدر المعسكر المنير هو الدكتور أسامة، الذي أسهم مع بقية زملائه من الشباب في إعداد مسابقة ثقافية ثرية، فيها أسئلة متنوعة في اللغة والأدب والنحو والسياسة والتاريخ والجغرافيا وغيرها، أعدوها في ملزمة ورقية متقنة ووزعوها على طلاب المعسكر جميعا، ليقرأوا ويتعلموا، وتكون منها أسئلة المسابقة الثقافية حين تُعقد بين الطلاب.


وهنا أُلمح إلى موقفين اثنين وقعا من الدكتور أسامة وتركا أثرهما في نفسي، وهما يدلان دلالة عظيمة على عنايته الشديدة بالعلم وغيرته عليه، وغضبه عند الاستهانة به! ذلك أن إدارة المعسكر وزَّعت علينا هذه الملزمة في اليوم الأول من أيام المعسكر، ونحن في الأتوبيسات، وطلبت إلينا قراءتها واستظهارها، فاهتم كثير من الطلاب بذلك، واعتنوا بملزمتهم، وكان قد أهملَها آخرون، شغلهم الجانب الترفيهي من المعسكر وغلب عندهم على الجانب التثقيفي، وهنا لاحظ الدكتور أسامة أن بعض الطلاب فقد ملزمته، وقصر في الحفاظ عليها، فأثر ذلك في نفسه، ووقف عندئذ موقفا حاسما، دعا إليه وأعانه عليه الدكتور محمد فتحي والأساتذة الآخرون، فأمسك بالميكروفون، ونادى فاجتمع الطلاب، وقال إنه لاحظ أن بعض الطلاب أهمل وأضاع الملزمة التي أعدها المشرفون على المعسكر من أجل التعليم والتثقيف، وهذا لا يليق بكم ولا يجوز في حق الإشراف، وقرر بالاتفاق مع الأساتذة إمهال الطلاب بضع دقائق، ليُحضر كُلٌّ ملزمته، وكانت العقوبة المتفق عليها أنه من لم يأت بملزمته يُحرم من «الجولة الحرة»، وكانت من أمتع الفقرات في المعسكرات!



الدكتور محمد متولي والدكتور أسامة شفيع  رحمهما الله

كنت، بلا شك، ممن احتفظوا بملزمة المسابقة الثقافية، فلم ينلني شيء من هذا العقاب في ذلك اليوم، وقد سعدت بذلك حتى إنني ما زلت أحتفظ بهذه الملزمة حتى اليوم، لم ينلها سوء! وقد تعلمت في ذلك اليوم شيئا مُهما، عَلِمْتُ فيما بعد أنه من العقائد الراسخة عند الدكتور أسامة، ولعلَّه أفاده من الجاحظ، إذ كان يُعجب كثيرا بقوله في «سياسة الحزم»: «بعضُ العفو إغراءٌ كما أنَّ بعضَ المنع إعطاء، ولا خَيْر فيمن كان خيرُهُ محْضًا وشَرٌّ منه مَن كان شرُّه صرفًا، ولكن اخلِط الوعدَ بالوعيد والبِشرَ بالعَبوس والإعطاء بالمنع والحِلمَ بالإيقاع فإنَّ الناسَ لا يَهابون ولا يصلُحون إلاَّ على الثّواب والعقاب والإطماعِ والإخافة». حقا كان ذلك دَرْسا عمليا مهما، فقد ربما أغرى الطلابَ به شدَّةُ ظَرْفِه وكثرةُ مرحه ودعابته، لكنه كان حازما صارما في المواقِف، يُحسن الفصلَ بينَ الأحوال، ويأبى إلا أن يضع الأمور في نصابها، مهما كلفه ذلك!


كان هذا هو الموقف الأول، أما الموقف الثاني فقد حدث حين جلس ثلاثة من الأساتذة المعيدين على المنصة لإجراء المسابقة الثقافية بين ثلاث فِرَقٍ من الطلاب، وكانت الأسئلةُ موزعةً بين فروع معرفية مختلفة، من اللغة والفقه والتاريخ وغيرها، وكان الأساتذة على المنصة من المتخصصين في فروع مختلفة كذلك. وقد توسطهم الدكتور أسامة يدير المسابقة، وكان أحد الأسئلة عن العام الهجري الذي فُتحت فيه مصر، فأجاب بعض الطلاب أن مصر فتحت عامَ 20 من الهجرة، وقال آخرون: لا، إنها فتحت في العام الحادي والعشرين من الهجرة، وكان أصحاب هذا الرأي الأخير، يستندون إلى معلومة ذُكرت في كتاب كان معهم عن تاريخ مصر. وعلا صوت الطلاب واصطخبوا وكاد يحتدم الصراع كلهم يؤيد صحة قوله وينتصر لنفسه ويريد الفوز، فدعاهم الدكتور أسامة بصوت صارم إلى التزام الصمت، وكان يسعه أن يفصل بينهم، ويعلن الرأي الصحيح الذي يعلمه هو، وينتهي الأمر، ولكنه لم يفعل ذلك، حتى لا يقع في نفوس بعض الطلاب أنه انحاز لفريق دون فريق، فتقع الشحناء بينهم، وهنا قال: أما وقد وقع الخلاف، فعلينا أن نستفتي أهل الذكر، فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، ومعنا الدكتور أحمد محمود، [وكان يجلس عن يساره على المنصة]، وهو من قسم التاريخ الإسلامي، وسيخبرنا بالعام الهجري الذي فتحت فيه مصر، ولا شك في أنه أقدر الناس على معرفة ذلك، فتحدث الدكتور أحمد وقال إن مصر فتحت في عام 20 من الهجرة، وهذا هو القول الصحيح، فنزل الطلاب على حكمه وهم راضون وانتهى الأمر.


-------------------------------------------------------
شارك :

الدكتور أسامة شفيع

الدكتور محمد متولي

صفحات من الصداقة والصديق

مقالات فيسبوكية

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: