خزانة الأديب :
بقلم الدكتور محمد متولي
صفحات من «كتاب الصداقة والصديق» (5)
..........................................................
عدت إلى البيت في ذلك اليوم سعيدا مغتبطا بتوقيع عقد الصداقة مع الدكتور أسامة، وزاد في سعادتي بهذا العقد أن من بين الذين باركوه وشهدوا عليه أساتذة شباب درَّسوا لي من قبل، وأنهم سيصبحون كذلك أصدقاء لي، أو أنني سأصبح صديقا لهم!
عدت إلى البيت، وكنت أقيم مع بعض الزملاء من طلاب الدراسات العليا في شارع أحمد حسن الزيات المعروف بشارع «المرور»، وهو شديد القرب من الجامعة، فخرجت في مساء ذلك اليوم مع أحد زملاء السكن، نتجول حول سور الجامعة وأمام بابها الرئيسي نلتمس نسمة هواء وقد اشتد حر الصيف، وقد خَفَّت حدة القلق التي كانت تساورني بأثر من بدء هذه الصداقة الجديدة، التي أمَّلت فيها خيرا.
قلت لنفسي سأحكي معاناتي للدكتور أسامة في اللقاء القادم بعد الفراغ من العمل في الكنترول، عندما نجلس كالعادة إلى الطاولة الكبيرة في حجرة المعيدين، لعلي أجد بذلك من أشاركه همومي، أو أجد عنده حلا أو رأيا سديدا أو شيئا من العزاء والسلوى، كنت أنتظر هذا اللقاء في يوم الامتحان القادم، لكن المفاجأة كانت مدهشة! فبينما كنت أتجول مع زميل السكن أمام باب الجامعة الرئيس، رن هاتفي المحمول، فإذا بي أقرأ على الشاشة اسم المتصل «سيدي ومولاي»، ولم يكن إلا هو نفسه الدكتور أسامة شفيع، فقد كنا تبادلنا أرقام الهواتف في المجلس الذي حررنا فيه عقد الصداقة، وأبى هو إلا أن يسجل رقم هاتفه في سجل هاتفي بنفسه، وكان أن سجله في سياق الدعابة والمرح بهذا الاسم «سيدي ومولاي»، فسعدتُ بدعابته، وضحكت، وأبقيت الاسم على الهاتف كما هو!
رددت على اتصاله، فجاء صوته باسما ودودا، يسألني: أين أنت؟ وهل يمكن أن تزورني الآن في البيت لنشاهد مباراة الأهلي والزمالك معا، ثم «ندردش» قليلا؟! كان الاتصال هكذا سريعا، وكانت الدعوة هكذا مباشرة، ولم أكن أتوقع أن يطوي أسامة كل المسافات بيني وبينه هكذا طيا في مدة قصيرة، فلم يكن قد مضى على بدء الصداقة سوى يوم أو بعض يوم! والحق أن تلك كانت عادته في الأمور كلها، فهو لم يكن يميل إلى التسويف، فكان إذا عزم على أمر رآه خيرا أنفذه في الحال! وقد رأيت ذلك منه من بعد في مواطن كثيرة.
استجبت لدعوته على الفور، واستأذنت من زميل السكن في الانصراف، وأسرعت إليه في بيته في «مدينة المبعوثين»، فاستقبلني خير استقبال، وكأنَّنِي صديق له قديم، أو أن حبال المودة ممتدة بيننا من سنين.. رأيت منه ما رأيت من كرم الضيافة وطلاقة الوجه والبشر الجميل، وبعد أن انتهينا من مشاهدة المباراة، دعاني للدخول إلى غرفة مكتبه، وقال ضاحكا إنه لا يستقبل فيها إلا المقربين! فسعدت بقوله هذا وشكرت له، وقلت: لقد ظننت أن ما جرى في لقائنا الأخير كان موقفا ضاحكا عابرا انتهي بانتهاء المجلس، فإذا بي أتلقى منك هذه الدعوة الآن! وأظفر الآن عندك بهذه المنزلة الكبيرة!
جلسنا في غرفة مكتبه، التي تتواري جدرانها الأربعة جميعا خلف قوائم خشبية أنيقة محملة بالكتب! رأيتها فراقتني سعة ودقة وتنوعا وامتلاء، وما كنت قد رأيت مكتبة تشبهها من قبل في بيت أحد من الناس، إلا ما كان في التلفزيون أو في «قاعة الاطلاع» في الكلية، وكنت أختلف إليها في بعض الأحيان. أثنيت على المكتبة ثناء صادقا، وقد وقعت في نفسي فعلا؛ لأنني شغوف بالكتب! سعدت بها سعادة كبيرة عبرْتُ عنها لأسامة، فقال: قلتُ لك إنني لا أدعو إلى مكتبتي إلا المقربين، ومن آنس فيهم خيرا وحبا للعلم من الأصدقاء! ودائما ما أنظر إلى أثر وقع هذه المكتبة وتلك الكتب في نفس من يراها لأول مرة، وأقرأ أمارات ذلك في وجهه وفي عينيه، ثم أقيس مدى قوة العلاقة التي قد تكون بيني وبينه فيما بعد بمدى انجذابه إلى الكتب، وانعطاف قلبه نحوها!
سعدت بتعليقه لأنني كنت أبديت اهتماما كبيرا صادقا بالمكتبة والكتب، وتوقعت بناء على ذلك علاقة قوية تنشأ بيننا، ثم جلسنا نتسامر بحديث تعارف مما يكون في اللقاءات الأولى، حدثني عن نفسه ونشأته وشغفه بالقراءة وحبه للعلم، حتى إنه لا يكاد يجد لذته في شيء سواه، وسألني عن نفسي فحدثته عن نشأتي وقريتي وعن حديقتنا وزراعتنا إلى غير ذلك من الحديث، وعن أحوالي في الكلية في سنوات الطلب، وعن مواقف مع الأساتذة، وحدثني هو كذلك عن سنوات دراسته وعن تفوقه، وكيف أن بعض الأساتذة كانوا يهدونه كتبا قيمة مكافأة له على تفوقه في كل عام، وذكر منهم الدكتور صلاح رزق الذي أهداه إثر تفوقه في بعض الأعوام كتاب «تجريد الأغاني» لابن واصل الحموي، في مجلدين كبيرين، بتحقيق إبراهيم الإبياري وطه حسين، ثم قام فالتقطهما من الرف وأطلعني عليهما وهو سعيد، وقال إنه ما تلقى مكافأة مالية قط وهو في صباه من أحد والديه أو من كليهما أو من غيرهما إلا أنفقها كلها أو جلها في شراء الكتب، وأنه بدأ في تكوين هذه المكتبة صغيرا، وقد شُغِفَ بالقراءة مع بدء المرحلة الثانوية. وحدثني عن شغفه الشديد بالعقاد وعن تأثره به في المنطق والنقد وطرائق التفكير، حتى لقد ملك العقاد عليه زمام نفسه! وحدثني عن اقتنائه لكتب طه حسين كلها، وعن فتنته بأسلوبه، حتى لقد راح يزهو بأن عنده كتبا لطه حسين ربما لم يسمع بها كثير من الناس، ثم قام فالتقط من الرف عدة كتب صفراء اللون صغيرة الحجم كلها لطه حسين، وسألني مزهوا عما إذا كنت سمعت بها من قبل، والحق أن بعض عناوينها كانت طريفة، وجديدة على سمعي وعيني في ذلك الوقت منها كتب: «ألوان»، و«بين بين»، و«من هناك»، و«جنة الحيوان»، و«في الصيف»، وعناوين أخرى كانت جميعا في طبعات قديمة نادرة صادرة عن دار المعارف، قبل أن تعاد طباعتها في السنوات الأخيرة، ورقيا وإلكترونيا.
كانت الجلسة مليئة بحديث العلم والكتب والذكريات، وقد جرى بيننا فيها شيء من الألفة والمودة عجيب، ربما دفع إليه تآلف أرواحنا، واشتراكنا في محبة العلم وشغفنا بالكتب، وقد طال الحديث في تلك الليلة حتى أوشك الفجر على الطلوع، وكنت كلما هممت بالانصراف استبقاني، وكلما عبرت له عن شعوري بالحرج لكل هذا التأخير رغم سعادتي به، دفع عني الحرج بأنه سعيد بصحبتي كسعادتي بصحبته، وقد بدد هذا الشعور منه كثيرا من القلق الذي كان ينتابني، فرويت له قصة معاناتي، وحزني للتأخر في تسجيل الماجستير، على جودة الموضوع الذي أعددته؛ لأسباب أراها غير مقنعة! فهدأ من روعي وقال: هذه أمور تحدث، ثم يكون خير بإذن الله، وضرب المثل بنفسه، وكيف أنه على تفوقه واهتمامه، لم يوفق في إحدى المواد في السنة التمهيدية للماجستير، لأسباب مشابهة، ثم امتحن فيها في الصيف، واجتاز الاختبار، وصار كل شيء ذكرى! وطلب إليّ أن أعطيه نسخة من خطة بحث الماجستير التي أعددتها ليقرأها ثم يطلعني على رأيه فيها، فسعدت بذلك، ووعدته أن أعطيها له في الصباح حين نلتقي في الكنترول.
انتهت ليلة السمر الجميل، ولم أكن أريد لها أن تنتهي، وكان الفجر قد أوشك على الطلوع، فاستأذنته في الانصراف للمرة الأخيرة بعد طول حرص منه على البقاء، وصافحته عند الباب، وغادرت بيته وقد امتلأ قلبي بشيء عظيم من الأنس، وامتلأت نفسي بشيء كبير من السعادة، على إثر هذا الالتقاء الروحي الجميل، الذي جاء في وقت كنت فيه حقا بحاجة إليه..
عدت إلى البيت، فلم أنم سوى سويعات قليلة، ذهبت بعدها إلى كنترول شيخنا إبراهيم ضوة، فرآني على غير عادتي من النشاط وفرط الحركة؛ لحاجتي إلى مزيد من النوم، فسألني عن ذلك فأخبرته باسما بما كان من طول سهري مع الشيخ أسامة، فعاتبني على ذلك ضاحكا عتاب المحب، ولم يكن أسامة قد وصل إلى الكنترول بعد، فقال الدكتور ضوة مداعبا: أخشى أن تفسد صداقتكم هذه علينا كنترولنا!
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: