«صفحة من كتاب الصداقة»
.............................................
كتب الدكتور محمود الربيعي كتابين رائعين من السرد الذاتي، أحدهما عن أخيه «محمد الربيعي»، والآخر عن واحد من أقرب أصدقائه إليه وهو الدكتور «السعيد بدوي». قرأت هذين الكتابين عند صدورهما قبل ثلاثة أعوام، قرأتهما بقلبي وعقلي قبل عيني ولساني، إذ رأيت فيهما قدرة عجيبة على العزف على أوتار النفس، وتصوير لحظات كثيرة نعيشها جميعا لكنني أزعم أن أحدا من قبل لم يستطع أن يتغلغل فيها وأن يسبر أغوارها ويعبر عنها كما عبر عنها محمود الربيعي. فهو يأخذك معه تمشيان الهوينى في دهاليز النفس الإنسانية المعقدة، تتجولان في أرجائها وتلمسان مواقفها الحياتية الكبيرة والدقيقة على السواء، فتطربان معا وتسعدان معا وتحزنان معا وتبكيان معا، وتخفق قلوبكما معا!! فكلامه كله قطعة من النفس! ويا شد ما ينخلع قلبك لحديث الربيعي -بعد رحلة طويلة من الصداقة الممتعة- عن مرض موت البطل ثم وفاته وحديث الجنائز والمقابر!! وما يكون في النهاية من فراق الأحباب!!
قرأت هذين الكتابين فتشوفت نفسي إلى قراءة كتابين آخرين رجوت أن يكتبهما الربيعي بالطريقة نفسها عن صديقين له حميمين هما: محمد حماسة وفاروق شوشة!! وتساءلت بيني وبين نفسي: ترى هل يفعل؟!! ثم تركت الأمر للأيام!
تركت هذا الأمر وظللت أرقبه منذ ثلاثة أعوام، حتى خرج كتاب جديد للدكتور الربيعي، قبل أسابيع قليلة، يحمل عنوان «متعتي في الكتابة – عن اللغة والشعر والنقد الأصدقاء»، أعلن عنه أستاذنا الدكتور أحمد درويش ونشر غلافه على صفحته، فاستعرته منه لأنني تبينت أن الكتاب لم يتح بعد في منافذ الهيئة العامة للكتاب، فتكرم بإعارته إلي أياما، وكانت هذه النسخة مهداة إليه من المؤلف، فهرعت إلى القسم الأخير من الكتاب، الذي جاء تحت عنوان «وغاب الرفاق»، وقد صدره الدكتور الربيعي ببيت شوقي:
وغاب الرفاق كأن لم يكن ** لهم بك عهد ولم تصحب!
والحق أنني وجدت في هذا الجزء تحقيق بعض أمنيتي، فإن كنت رجوت أن يكتب الربيعي كتابا كاملا عن حماسة؛ لأنني أحب حماسة، وأحب طريقة الربيعي في الكتابة الذاتية، فقد تحقق هذا الرجاء، ولكن بكتابة صفحة واحدة من هذا الكتاب الذي رجوت كتابته! جاءت تحت عنوان «صفحة من كتاب الصداقة – محمد حماسة عبد اللطيف»، وهي بضع صفحات تعدل ذلك الكتاب الكامل، وقد أحاط بهذه الصفحة في هذا القسم من الكتاب ثلاث صفحات أخرى، فقد سبقتها صفحة «إلى صديق العمر الجميل أحمد مختار عمر»، وتلتها صفحتان عن «فاروق شوشة»، و«أبو المعاطي أبو النجا».
ومن الطريف أنني وجدت في هذا الصفحة التي كتبها الربيعي عن حماسة، بعض إشارات إلى أن هذه الصداقة كانت تستحق كتابا تبسط فيه أخبارها! وأن الربيعي طالما طلب من حماسة أن يكتب هذا الكتاب، وقد وعده حماسة بذلك أكثر من مرة ولكنه لم ينفذ، رغم تداولهما لمجمل ما يمكن أن يشتمل عليه هذا الكتاب.
ويختم الربيعي هذه الصفحة التي كتبها عن حماسة كذلك بأنه كان يود أن يكون إسهامه في تكريم حماسة عملا نقديا مطولا يفحص إبداعه الشعري، أو عملا بحثيا مطولا يفحص إنجازه العلمي، لكن قضاء الله سبق، وهو يرجو أن تقبل منه روح حماسه تلك الصفحة المختصرة من كتاب صداقتهما المطول.
*********
صفحة من كتاب الصداقة - محمد حماسة عبد اللطيف
بقلم الدكتور محمود الربيعي
الطالب المتوثب الذي أبدى ملاحظة أغضبتني- أول عهدنا باللقاء في قاعة الدرس- سيصبح صديقى على مر السنين. كنا نتحدث عن الملاحم الإغريقية -وكنت عائدا لتوى من بعثتى إلى إنجلترا- أدرس للطلاب مادتي النقد الأدبي، والأدب المقارن، وأتحسس خطوات نحو إيجاد اللغة المناسبة التي أجعلها وسيلتي في الخطاب. سألت -عفو الخاطر- عن الطريقة التي يُكتب بها اسم الشاعر الإغريقي الشهير في العربية، وهل هي «هوميروس» أو «هومير»، فرد ذلك الطالب من فوره قائلا: «في الحقيقة هو«هوميروس»، لكنهم «يدلعونه» «بهومير»! لم أستسغ «الدعابة»، ونظرت إليه نظرة ظاهرها «الحياد» وباطنها «اللوم والتحذير»، وقلت له بنبرة هادئة: «متشكر يا أخي»، ثم عبرنا إلى موضوع آخر، وكأن شيئا لم يكن، لكنه أخبرني بعد سنين من تلك الحادثة أن عبارتي زلزلته، وأنه تنبه إلى أنه يتعامل مع نوع آخر من الأساتذة.
ثم رحلنا معا في الحياة، رغم فارق السن بين طالب وأستاذ، وفارق التخصص بين نحوي وناقد، وفارق النشأة بين «صعيدي» و«بحيري». أكلنا في مطاعم القاهرة المتواضعة، ثم المتوسطة، ثم الفاخرة، واصطفنا مع أسرتينا في الشواطئ الشعبية وغير الشعبية، وعشنا سنوات عديدة خارج أرض الوطن (وإنها التجربة!!)، وتبادلنا المشاعر والأفكار، والمجاملات، دون توقف، ودون حدود، وسخرنا من هموم الدنيا، ومن أنفسنا، ومن الآخرين، لكن دون أن نلحق بأحد أي نوع من أنواع الأذى.
حين توطدت صداقتي به -وأصبحنا نرى متلازمين- نصحني ناصح ألا أمعن في هذه العلاقة؛ لأن حماسة شاب مندفع، ومن شأن ذلك حين يُحْسَبُ هو عليَّ أن يعوق صعودي المرتقب في السُّلَّمَيْن الوظيفي والإداري، كما أن من شأنه أن يحول بينه وبين تطوير شخصيته الخاصة نظرا لوقوعه في أسري.
لم أستمع إلى النصيحة في كلا جانبيها ومضيت أوثق علاقتي معه. ثم أصبح واحدا من ألمع المشتغلين بعلم النحو، ذلك الفرع «المحظوظ» من فروع الدرس العربي، كما أصبح في السنوات الأخيرة مجمعيا مرموقا. ولا أنسى شعوري بالفخر والسعادة حين عاد داوود السيد موفد جامعة الكويت للقاء المرشحين للتدريس بها في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي -وكنت أعمل في كلية الآداب بها- يتغزل في علم شاب مصري اسمه محمد حماسة عبد اللطيف، ويبشر قسم اللغة العربية بأنه جلب لهم لؤلؤة فريدة ستسد فراغا كبيرا في مادة النحو، وذلك على الرغم من أن هذا القسم كان يزدحم بحوالي نصف دستة من شيوخ النحاة وشبابهم على السواء. هكذا جلست آنئذ صامتا أتلذذ بالكلام الجميل عن صديقي، وكان يتلى على عدد يربو على العشرين من أساتذة جاءوا من كل أرجاء الوطن العربي.
وحين وصل هو في مفتتح العام الدراسي لم أهتم بذكر ذلك له، لكني قضيت معه سنوات حافلة بحلوها ومرها، كما أنها حافلة بالمفارقات التي تستحق أن يكتب عنها كتاب كامل، طالما دعوت حماسة إلى كتابته، وقد وعدني بذلك أكثر من مرة ولكنه لم ينفذ، وذلك على الرغم من تداولنا لمجمل المحتويات التي يمكن أن يشتمل عليها هذا الكتاب، واتفاقنا على عنوانه وهو: «من أخلاق الإعارة».
زرته في دار عائلته في«كفر صراوة»، وزارني في دار عائلتي في«جهينة»، وأتذكر التأثر الشديد الذي بدا عليه حين وقف يتطلع إلى نوافذ بيتنا عبر باحة دار العائلة، كما أتذكر الحوار الذكي الودود الذي دار بينه وبين إخوتي في تلك المناسبة؛ قال: إنه يشعر كأنه أخ لنا، فعلق أحد إخوتي بأنهم يقبلونه أخا على الرحب والسعة ما دام لا يُتْبِع ذلك بادعاء نصيب في الميراث، وعقَّب الآخر بقوله: «كان غيره أشطر»، مشيرا إلى أننى أنا نفسي لم أجرؤ يوما على هذا «الادعاء».
وأرسلت إليه- وهو إذ ذاك في باكستان -أرجوزة طويلة سميتها «من أراجيز الفقهاء»، أثبت منها هنا ما يمكن إثباته:
أوصيك بالحكمة والكياسه ** في كل أحوالك يا حماسهوحاذر الأشرار سراق المنى ** ولا تهادنهم وقل: إني هناوبتَّ في الأمور والمسائل ** واكتب لنا «ومط» في الرسائلفإن في الرسائل المودَّه ** وهي لطعم «العيش» مثل «الردَّه»بالأمس رحنا صحبة كبيره ** نهنئ الأمير والأميره«هاني سلامٌ» والعروس «عايده »[صغرى بنات السعيد بدوي] ** قد فتل الحب لكل قيدهوجاءت المدام والبنات** و«حاتم» فالتأم الشتاتفي فندق السلام كان الفرح** عند «السعيد» لك ما تقترح:الأنس والحبور والوئامُ ** مائدة أهونها الطعامُواجتمع «السكوت» و«الحديدي» ** فامتزج القديم بالجديدواختال «إبراهيم» في بزَّته[إبراهيم الترزي] ** حياؤه يفيض من عزتهوجاء «مختار» وأهله معه** فاتخذ الجميع كل موضعهوكان «فاروق» [فاروق شوشة] ضياء السهره ** فارس أحلام لكل مهرهإنا افتقدناك وما من صاحب ** ينوب عن هذا الحبيب الغائبقد سئلتْ زوجتك المصون ** متى يُفَكُّ الطائر المسجونفهتفت بصوتها المهذب** في اثنين من يونيو؛ فعجل و«النبي»!«حمدى» [حمدي السكوت] يعد حفلة في المزرعه ** يذهب فيها عقل أهل «الصومعه»وأنت مسئول الشواء والسمر** تحت النجوم أو على ضوء القمرونحن من حماك قِيد فتر** حاميك -أو رقيبك- «السحتري» [حسن السحرتي]هذى الجنان أكلها كشربها ** روح وريحان بإذن ربهاأعنابها رهينة الأقداح ** ويطلق التفاح في الرواححدث عن السرور ممتد الأمدْ ** عين الحسود قد سرى فيها الرمدْإن لنا أخرى بنادي الصيد ** تجاوزت في اللطف كل حدنحن بها على الوداد صحبه ** وسحرها کسحر «قصر القبه»
رحيقها صداقة الإخوان ** وردُّنا على «أبي حيان» [نفى أبو حيان التوحيدي في كتابه الصداقة والصديق أن يكون ثمة صداقة أو ثمة صديق!]
وهْى إذا أرهقنا طول العمل ** ملاذنا فحَيَّهَل وحَيَّهَليا خالق الشراب في الكئوس ** وخالق الحكمة في الرءوسوخالق الصبوة في النفوس ** وخالق العبرة والدروسإنى من الحاجة في مسيس ** لرشفة يمنحها جليسيقد قلت واللهفة بعض ما بي ** يا أملا يلوح كالسرابشوقي شديد للقا أحبابي ** متى أرى «حماسة» ببابي؟
لا أريد أن أرسم لحماسة صورة مثالية، أو لصداقتنا صورة وردية، فأنا أجله وأجلها عن هذا وذاك. إنما أن أتحدث عنه باعتباره بشرا، وعن صداقتنا بصفتها علاقة إنسانية، وأنا أفتخر بذلك كل الفخر؛ إذ أرى نفسي متكاملا مع صديقي لا مکررا له، ولا متطابقا معه. ولا أرى حرجا مطلقا في أن أتحدث عن الجوانب التي نختلف فيها، وأعد ذلك ردا بليغا على الذين ينحرفون بالصداقة إلى جانب التقريظ المسرف والمجاملات الفارغة؛ وهو الأمر الذي أراه يعرض الصداقة للانهيار عند أول اختبار، وذلك يعني أنها كانت هشة غاية الهشاشة. نعم لقد اختلفنا، ولكن لما كان جوهر الصداقة سليما فإن الخلافات لم تنل منها، بل قوَّتْها على الأيام. لقد أسهم مدها وجزرها في إزالة ترسبات الملالة عنها أولا بأول، وعصمها من أن تقع في دائرة الفتور، وصفى الشوائب العالقة في مجراها فأصبحت سلسلة رائقة على الأيام.
إذا غضب حماسة «نكب عن ذكر العواقب جانبا»، وهذا أمر أختلف معه قليلا فيه. وهو ينعتنى دائما بأنني- على عكسه- قادر على التحكم في مشاعري، ومع أنني لا أوافقه الرأى تماما في هذا، فإني أداعبه عادة بقولي: لماذا إذن لا تحاكيني في هذا الجانب؟ وكلانا جهير الصوت، لكنه أجهر مني، ودموعه أقرب من دموعي وإن كنت لا أعد القدرة على حبس الدموع مما يفتخر به؛ فالدمع «لم يخلق لامرئ عبثا»على حد تعبير ابن الرومي:
لم يُخلق الدمع لامرئ عبثا ** الله أدرى بلوعة الحزن
تكاملت معارفنا مع مرور الزمن، فنحن أبناء تعليم رسمي متقارب، تعلم كلانا في الأزهر ودار العلوم فوفر لنا ذلك زادا كلاسيكيا صلبا، على الرغم من التسليم بأن «أزهري» ليس- بالضبط -أزهره، ولا «دار علومي» -بالضبط- هي «دار علومه»، وزودني بثقافته الشعبية الريفية الواسعة العميقة التي جاء بها من «كفر صراوة»، تاليا على مسامعي من ذلك أطرف الحكايات، وأحلى النوادر، وأعمق المواقف التي تنضح بالسخرية والحزن، كما زودته بما حملته من مجتمع الأميين وفلكلورهم في «جهينة» -تلك القوقعة الثقافية العميقة الأخاديد والتجاويف، الراقدة على حافة الصحراء في ريف الجنوب- ثم رحلت إلى لندن، وعدت فرويت له، حين قدر لنا أن نتآلف، مفردات رحلتي بجملتها وتفاصيلها، وبحقائقها وأوهامها على مدى خمس سنوات متصلة، فوعي عني، وأخبرني أن ذلك قد سقط إلى أعماق نفسه بحيث أصبح يرى نفسه سائرا في شوارع لندن، وأنه لو قدر له أن يراها رأي العين ما احتاج في سلوك شعابها إلى دليل.
أرى حماسة رجل مجتمع، كما أرى له صفات القائد، وأرى نفسي ميالا إلى العزلة، وأشتكى من أنني لا أصلح حتى لقيادة نفسي، وعلى ذلك فالتكامل الثقافي الذي أشرت إليه بيننا لا يعني تطابق شخصيتنا، وإنما يبقى بيننا هامشا واسعا من الاختلاف. هو جسور مبادر يقتحم من المواقع ما أحسب له أنا -قبل اقتحامه- حسابات شتى، وبالتالى فأنا أقدر منه على رسم خط الرجعة. وفي الناحية الفكرية والمنهجية طور لنفسه نقاطا تنال إعجابي؛ فهو يؤمن بأن «النحو إبداع»، ويعمل على تحقيق ذلك ببذل مجهود كبير في جوانب: «نحو الجملة»، و«نحو النص» وما أشبه، ومع ذلك أراه متشددا في موضوع «الصواب والخطأ» في اللغة، يأخذ عليَّ ما يعده هو أخطاء، وأرى لها أنا بعض احتمالات الصواب، وأذكره دائما -على سبيل الدعابة – بخرافة «الثقل والخفة» في نطق اللغة بالنسبة لأصحابها التي هي سليقة لهم، وأصفق- لأغضبه- لمن سأل أحد طلابه في مناقشة علمية: «ثقيل على من؟». لقد عابثته في هذا الأمر حتى سلم لي أخيرا بصحة السؤال، وإن بقي على موقفه من السخرية بالسائل!
حين أسمع صوته في الاجتماعات العامة يجلجل في المكان أخاف عليه، وأخشى أن يخرج في نهاية «النزال» مهزوما؛ وذلك لأنني أعرف بخبرتي أن الناس لن يلتفتوا إلى نصاعة بيانه، أو قوة حجته، أو تجرده عن الهوى الشخصي، أو نواياه النبيلة في الإصلاح، وإنما سيأخذون عليه «علو» نبرته، وسيقضون في الأمر المطروح بناء على هذا المأخذ ليس غير. تلك ظاهرة مطبقة في حياتنا العامة، وهي تزداد تفاقما بازدياد التدليس، والتقوقع، وسيادة النفعية، والشللية وغير ذلك من المفاسد التي تنتشر في تلك الحياة انتشار النار في الهشيم.
لقد أوذي حماسة في حياته العلمية، وكنت شاهدا على فصول هذا الإيذاء، وظلم دون ذنب، وكان بوسعه أن يستجيب للمتعارف من الأمر، ولكنه كما وصفته «ينكب عن ذكر العواقب جانبا» في كثير من الأمور، أو تراه ظلم لقربه مني، تصديقا للنصيحة التي أشرت إليها في مفتتح الكلام.
مضت حياتي معه- بشد وجذب خفيفين- لكن على شروط الصداقة وحرماتها -حتى استقرت على محجة المودة الخالصة التي تتجاوز في يسر ما يمكن أن تفرضه الحياة اليومية من مضايقات- الآن- وقد عبر هو من الشباب إلى الكهولة، وعبرت أنا من الكهولة إلى الشيخوخة- ننظر إلى خلافاتنا -رغم أنها ما تزال تحدث- بنوع من الواقعية، المشوبة بسخرية، علمتنا إياها الأيام: إذا قال لي: «أف» حذرته من ذلك بقوله تعالى: «فلا تقل لهما أف» وإذا قلت له: «أف» حذرته من الغضب مني بقول المتنبي (والتحوير من عندي): وإذا الشيخ قال أف فما مل «ودادا» ولكن «الهجر» ملا.
وكنت أود أن يكون إسهامي في تكريمه عملا نقديا مطولا يفحص إبداعه الشعري، أو عملا بحثيا مطولا يفحص إنجازه العلمي، لكن قضاء الله سبق. أرجو أن تقبل مني روحه تلك الصفحة المختصرة من كتاب صداقتنا المطول.
************
هذه هي الصفحة التي خطها الدكتور الربيعي من كتاب صداقته مع حماسة، وقد طربت لها وسعدت بما سرى فيها من الصدق وبما اتسمت به من الموضوعية، غير أني وجدت في نفسي حين ذكر الدكتور الربيعي ما ذكره من احتفاء داود السيد بهذا الشاب المصري الذي اسمه محمد حماسة عبد اللطيف، وتغزله في علمه وتبشيره قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة الكويت، وفيه نصف دستة من أساتذة النحو، بأنه جلب لهم لؤلؤة فريدة ستسد فراغا كبيرا في مادة النحو! - وجدت في نفسي حين ختم هذا المقطع بقوله: «ولكني لم أهتم بذكر ذلك له!!» وقلت: ليته اهتم بذكر ذلك له! فلا شك أن ذلك كان سيسعده سعادة ليس يحدها شيء! حتى لأشعر الآن بالسرور الذي كان يمكن أن يغمر نفسه ويملأ قلبه وينير وجهه، رحمة الله ورضوانه عليه!
وبارك الله في عمر أستاذنا الدكتور الربيعي، ليسعدنا بمزيد من الكتابة الذاتية الإنسانية الجميلة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: