الدكتور شعبان عبد الجيد: لماذا نموت؟ الجزء الأول (خزانة الأديب)

شارك :

 خزانة الأديب :

الدكتور شعبان عبد الجيد :

لماذا نموت ؟ 

( 1 ) ثلاثُ حقائقَ حولَ الموت !  

**************************  

    منذ أربعٍ وخمسين سنة ( عامَ وُلدتُ ) صدر كتابٌ في حجم كف اليد يحمل هذا العنوان :       " لماذا نموت ؟ " . للدكتور عبد المحسن صالح ، وهو واحدٌ من رواد الكتابة العلمية  في بلادنا . 


كان الكتاب أيامها يباع بثلاثة قروش ، في سلسلة المكتبة الثقافية التي كانت تقدم لقرائها خلاصة الفكر العربي والغربي في شتى المعارف والموضوعات ، بأقلام كبار الكتاب والعلماء والأدباء . 

الدكتور شعبان عبد الجيد: لماذا نموت؟ الجزء الأول (خزانة الأديب)


يقع الكتاب في ستٍّ وتسعين صفحةً من الحجم الصغير ، وسوف أعرضه هنا بصورةٍ سريعةٍ ومختصرة ، لأفرغ من بعده لثلاثة كتبٍ أخرى شكلت ، وفي فترةٍ مبكرةٍ من حياتي ، فكرتي عن ( الموت ) ويقيني بما وراءه .

    الذين يُعَرِّفون الموتَ يقولون : إنه حين يتوقف الجسمُ عن الحياة بصورة كاملة فمعنى ذلك أن الإنسان قد مات ؛ فالعين لا ترى ، والأذن لا تسمع ، والأنف لا يشم ، والقلب لا ينبض ، والعقل لا يعي ، ولا شيء في الجسد الهامد يتحرك على الإطلاق . 

   لكن من الوجهة العلمية ، وحتى بعد أن نعلن عن وفاة شخصٍ ما ، فإن هذا الرجل لم يمت ككل ، وسوف تظل في جسمة بقيةٌ من " رُوح " ، أو " حياة " ، ليست حياته   ككل ؛ ولكنها حياة ملايين الخلايا التي لا تزال تقوم بوظيفتها في الجسم المسجَّى أمامك ، أو في الجثة المحمولة على أعناق الرجال ، أو في العربة التي تجرُّها خيول مُطَهَّمَة ... ومن المؤكد أنها ستموت بعد ساعاتٍ قد تطول .

لقد قرَّر الجميعُ أنه قد مات ، وتسلَّم أهلُه شهادة الوفاة ، وشُطِبَ اسمه من سجلات الحياة ، وسيختفي الرجلُ حتماً في التراب ، ولكن .. هل مات حقًّا ككل ؟ وهل انتهت بموته آخر خلية حية كانت تعيشُ معه ؟

وللإجابة عن هذا السؤال ، علينا أولاً أن نوضِّحَ هذه الحقائقَ الثلاث :

الحقيقة الأولى عن الموت 

الحقيقة الأولى: هي أن هذا الرجل ، وكل إنسانٍ  على وجه الأرض ، كان يموتُ طيلةَ حياته ، وهو نوعٌ من الموت كان من المؤكَّد في صالحه ، وكلٌّ منا يسير على شاكلته ؛ فكل شيءٍ يتحرك ويدور ويعمل ، لا بدَّ أن يُستهلَك ، ولا يختلف الإنسان في ذلك عن الحيوان والآلة ؛ وعلى قدر هذا الاستهلاك تزحف عليه الشيخوخة ، إمَّا ببطءٍ إذا كان استهلاكُه لنفسه بطيئاً ، أو بسرعةٍ إذا كان عكس  ذلك . إلا أن جسم الإنسان ـ هذا الجهازَ الحيَّ ـ المغلق يختلف عن الآلة اختلافاً كبيراً ، فهو قادرٌ على أن يرمِّمَ التآكلَ الذي يحدث فيه ، وعلى قدر الكفاءة التي يسيرُ بها الجسمُ في الترميم ، يكونُ عمرُ الإنسان .

 وعملية التآكل تحدث أساساً في الخلايا .. ففي كل ثانية تمرُّ من أعمارنا يستهلك الجسمُ ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين خلية دموية ، والمستهلكات من الدم تذهبُ إلى الطحال ليهدمها ، والمولِّدات لكرات دم جديدة تتواجد في المخاع ، لتدفع إلى الدم بجيوش جديدة من هذه الخلايا ، لتعوض المفقودَ باستمرار .

والطبقات السطحية للجلد تتآكل وتُستَهلَك بالملايين ، ولا بد لها من تعويض ، وكذلك تُستَهلَك عشرات الملايين من الخلايا المبطِّنة للأمعاء والقنوات ، ويحدث الشيءُ نفسُه في الكبد والكُليتين ، إلا المخ وخلايا الأعصاب ، فإنها إذا فُقِدَت أو تناقصت ، فلن تعيدَها الصلوات ولا الدعوات ولا حتى علماء العالم أجمع . 

أضف إلى ذلك أننا نأكل باستمرار ، ولو استفدنا بكل ما نأكل لصارت أجسامنا ضخمةً بصورةٍ مزعجة ، ولكن الجسم الحيَّ يغير مادته باستمرار ؛ فيهدم بعض جزئياته البروتينية هدماً بطيئاً ، وتخرج نفاياتها عن طريق الكليتين على هيئة مركبات بسيطة مع البَول ، ثم يستفيد مرةً أخرى من بروتينات الطعام الذي نتناولُه ، بعد أن تكون قد تحللت في الأمعاء إلى أحماض أمينية بسيطة ، يستطيع الجسمُ أن يشكلها على هواه ، فيعوض المهدوم بجزئيات بروتينية جديدة ، يبني بها العضلات والأنسجة الأخرى .

عمليتان متوازيتان من الهدم والبناء ؛ تسيران معاً في وقتٍ واحد ، وبناءً عليهما تتحدد شيخوخة الإنسان ؛ ذلك أن جسم الصبيِّ والشابِّ يرمم كلٌّ منهما نفسَه بكفاءةٍ أسرع من ابن الأربعين  وكلما تقدَّم الإنسانُ في العمر تناقصت فيه كفاءةُ هذا الترميم ، عندئذٍ لا بدَّ من الشيخوخة المحتومة التي تؤدِّي قطعاً إلى الموت ، وهذا هو الموتُ البطيءُ الذي تسيرُ فيه الخلائقُ جميعُها ليحملَها في نهاية المطافِ إلى موتٍ سريعٍ ، لا رجعةَ منه على الإطلاق .

الحقيقة الثانية عن الموت 

الحقيقة الثانية : هي أن الذي يموت في الإنسانِ هي مادته الحيَّة التي فقدت قدرتَها على التشكُّلِ والتفاعل والبناء والترميم ؛ إنه يختفي عن أعين أحبائه ومعارفه اختفاءً ظاهرياً فقط ، فما زالت المادة التي كان جسمه يحتويها موجودةً برمَّتها على هذا الكوكب ، فالمادة لا تفنَى ولا تُستحدَث ، ولا بد أن يُعاد بناؤها من جديد .. تماماً كأحجار البيت المهدوم الذي يُعادُ بناؤها من جديدٍ في بيوتٍ أخرى .  

 إن كلَّ مخلوقٍ يجري أمامنا الآن ، إنما يسيرُ بعناصر من سبقوه على الأرض ... ذلك أن العناصر تدور في هذا الكوكبِ دورةً ضخمةً ، وتنتقل مخلوقات جيلٍ مضى إلى مخلوقات جيلٍ سيجيء ، ولن تتوقف هذه العملية إلا إذا توقفت عمليات التخليق على هذا الكوكب واندثرت فيه الحياة .

وحتى بعد أن يُحمَل المرءُ إلى مستقره الأخير ، ويوضع في المسبَك الأرضيِّ الذي منه تكوَّن وإليه يعود : هنالك تجدُهُ الميكروبات فريسةً سهلةً ؛ فتصهره وتحلله ، بعد أن كان في حياته سدًّا منيعاً لفتكِها .. وما دامت الميكروبات قد أكلته ، فلا بدَّ لها أيضاً أن تموت .. " فكل من يأكل على هذا الكوكب يموت " !


الحقيقة الثالثة عن الموت

الحقيقة الثالثة : أن كلَّ المادة الحيَّة فيمن مات لم تَمُت ، وإلا لما كان هناك إنسانٌ آخر ، ولا قرد ولا ثعلب ولا حشرة .. ولا شيءَ إطلاقاً ، ومن هنا وجب علينا أن نفرِّقَ بين جزءين مهمين في جسم المخلوق : جزء يموت ، وجزءٍ خالدٍ لا يموت .

وبتوضيحٍ أكثر .. فإننا كجنسٍ بشريٍّ نسكن هذه البسيطةَ ، يمتدُّ أصلُنا إلى مئات الملايين من السنين ... وأصل كل مخلوقٍ ، عاقل وغير عاقل ، كبير الحجم جدًّا أو ضئيل الجسمِ جدًّا ، يعجبُك شكلُه أو لا يعجبُك ـ قد بدأ بخليِّةٍ واحدة ، وقد تبقى الخلية على بساطتها ، كما هو الحال مع الميكروبات وما شابهها ، وقد تسير في تعقيدٍ طويل ، كما هو الحال في خلقتنا وخلقة كل حيوان تراه أمامك ... 

عندئذٍ ، وعندئذٍ فقط نقول : إن وجودَنا على هذا الكوكب ، وبمثل هذا البناء ، مصيره شيخوخة محتومة ، والشيخوخة بمتاعبها وأمراضها تؤدِّي حتماً إلى الموت !!

لكن الموت ليس نهاية الرحلة .. بل هو بداية لرحلة أخرى جديدة ... وهو ما سوف أحدثكم عنه في لقاءٍ قريبٍ بمشيئة الله !

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بقلم الدكتور شعبان عبد الجيد 

الدكتور شعبان عبد الجيد: لماذا نموت؟ الجزء الأول (خزانة الأديب)



روابط مهمة لك : 

  1. لقراءة مقالات الدكتور شعبان عبد الجيد اضغط هنا .
  2. لقراءة سلسلة (لماذا نموت؟) اضغط هنا .








شارك :

الدكتور شعبان عبد الجيد

درر وجواهر العلماء

لماذا نموت؟

مقالات إسلامية

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: