خزانة الأديب :
صفحات من «كتاب الصداقة والصديق» (1)
..........................................
في مساء ذلك اليوم من الأيام الأولى من شهر أكتوبر عام 2000م، كانت الدراسة قد انتظمت في دار العلوم، ولما يستقر طلابها بعدُ في المدن الجامعية، وكان الطلاب المستجدون في الفرقة الأولى يحضرون إلى الجامعة في الفترة المسائية، يبدأ يومهم بعد الظهر وينتهي بعد العشاء، وكانت آخر محاضرات ذلك اليوم هي «سكشن الشريعة».
كانت تدرس لنا نحن طلاب شعبة «ط» في مدرج «23» أستاذة كريمة فاضلة، تقرأ معنا «سورة النور»، وتعلمنا أحكام التجويد، وتشرح لنا ما ورد في السورة من أحكام الفقه ووقائع التاريخ. كانت تشرح لنا ذلك وفي نبرة صوتها شيء من الحدة، بالغ من شعورنا بها قلق شديد يملأ قلوب أبناء القرية الذين جاءوا إلى المدينة أول مرة، وقد جَنَّ عليهم الليل ولا مأوى لهم!
كانت مدة هذه المحاضرة ساعتين، تبدأ في السادسة قبل أذان المغرب، وتنتهي في الثامنة بعد صلاة العشاء، وقد دفع هذا التوقيت أساتذة الشريعة في أغلب الشُّعَب، وهم أحرص الناس على صلاة، إلى السماح للطلاب بالخروج من المحاضرة بضع دقائق لصلاة المغرب قبل أن تدركنا صلاة العشاء، فسمح لنا ذلك الخروج المؤقت باللقاء في المسجد وفي الردهات، فكان يسأل بعضنا بعضا عن أستاذه الذي يدرس له «سكشن الشريعة»، فنقل كل منا إلى زملائه انطباعه الأوليَّ عمن يدرس له.
نقلنا لزملائنا انطباعنا عن أستاذتنا الفاضلة الغاضبة، ونقل زملاؤنا لنا انطباعاتهم عن أستاذ لهم معيد شاب يقال له «أسامة شفيع»، أثنوا عليه خيرا كثيرا، في لهجة فرحة مُعْجَبَة، لم تُسعفهم كلماتهم المتسارعة وقتها في التعبير عن قوة ما شعروا به نحوه من الإعجاب وانعطاف القلب، وإن بدا ذلك كله وفوقه في فرط حركات أيديهم واندهاش ملامح وجوههم في كل مرة! وكان أبرز ما ذكروا عنه من الانطباعات الأولى أنه حَسَنُ الصوت، بارع في تلاوة القرآن، تأسِرُ أنغام صوته الأسماع وتستميل الأفئدة، ثم هو فصيح اللسان، وكأنه خطيب متمرس، يأخذُ الطلابَ بالرفق والجِدِّ معا، ويُظهر في تعليمهم، والحَدَبِ عليهم، قدْرًا من الحرص لم يعهدوا مثله في غيره من الأساتذة.
عُدت إلى المحاضرة ذات مرة بعد أن انقضت استراحة الصلاة، ولم تزل ترن في أذني كلمات زملائي في الثناء على ذلك الأستاذ الشاب أسامة شفيع، حتى كادت كلماتهم تحجب عني صوت الأستاذة المحاضِرة، وتمنيت في نفسي لو كنت في شعبته ومن بين طلابه، فأنا، على ما يعتورني من القصور والتقصير، باحث أبدا عن المثال، ومتطلع دائما إلى التجويد ما استطعت إلى ذلك سبيلا، فإذا كنت الآن طالبا فإنني أحب أن أكون عند أفضل المعلمين، ومن يدري لعلي لو كنت من بين طلاب ذلك الأستاذ إذن لقربني منه، فأنا محب للغة العربية، وأعرف في نفسي أنني حسن الصوت في تلاوة القرآن، وقد أهلني ذلك لأن أظل قارئ القرآن في الإذاعة المدرسية، أتلوه في الطابور كل صباح في مراحل التعليم كلها، ولا شك أنه إذا سمعني فسيحظى صوتي منه بالقبول! ذلك القبول الذي كنت أرجو أن أجد شيئا منه، وكنت أتوقعه، من أستاذتنا المحاضِرة، لكن ذلك لم يحدث، فقد طلبت مني ذات يوم القراءة، فأردت أن أظهر المهارة، فقرأت من محفوظي قراءة استفرغت فيها الجهد وخبرة السنين في تحسين الصوت، وقد تم لي ما أردتُ، لكني نسيت كلمة واحدة خلال القراءة لفرط ما تلبسني من الخوف، فكانت هذه الكلمة التي نسيتها هي وحدها موضع التعليق من الأستاذة، قالت: «أنت حفظتَ السورة هكذا، ولو أنك حفِظْتَها حفظًا صحيحا لما نسيت هذه الكلمة»!
كدتُ أقسم بالله قسما مغلظا أنني حفظت السورة حفظا صحيحا، وما أنساني تلك الكلمة التي أنسيتها إلا شدة التوتر وفرط الخوف الذي يعتري الطلاب جميعا في هذه القاعة، من حدة نبرة الصوت، التي بدت الأستاذة فيها وكأنها تحاول تطبيق قول الله: «فلا تخضعنَ بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض»! ولم يكن علم الله في قلبي ولا في قلوب الزملاء شيء، سوى ذلك الخوف الذي تلبسني فحال دون النطق بذلك القسم، الذي حاولت عبثا أن أدافع به عن نفسي، فالتزمتُ الصمت!! وطويت صدري على مرارة شديدة، يشعر بمثلها من أحسن الصُّنْع وتوقع الثناء، فجاء كل شيء على عكس ما يشتهي..
ثم تَرَدَّدَتْ في سَمْعي من جديد كلمات زملائي من طلاب الشعبة الأخرى في المدرج المجاور عن أستاذهم الشاب أسامة شفيع! فحرصت على أن أخرج من المدرج بعد انتهاء المحاضرة، ولا أبرح المكان حتى أراه، فوقفت فإذا هو، بعد أن أنهى محاضرته، قادم من بعيد . . .
-------------------------------------------------------
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: