من مذكرات مدرس (7)
لم يكن عبده منصور يعلم عني سوى أنني مدرس لغة عربية وتربية دينية جديد في مدرسته، أما مهارتي التعليمية، وقدراتي التدريسية، فلم يكن ذلك يعنيه مطلقًا، وقد كان يؤمن بأن الجميع في هذا الجانب سواسية، طالما المدرس يحمل شهادة جامعية، والوزارة بجلالة قدرها اعتمدته مدرسًا، فهذا الموضوع منتهٍ ولا مجال للمزايدة عليه.. ذلك أن الأستاذ عبده كان لا يؤمن من الأصل أن للثقافة جدوًى، أو للتعليم ذاته قيمةً ما لم يكن الشخص قادرًا على جمع المال.
إلا في ذلك اليوم.. الذي شاء الله أن تتغير نظرته لي ومعاملته لشخصي الجديد.
حضر إلى المدرسة موجه تربية إسلامية، وطلب من الأستاذ عبده أن يدخل أحد فصول الصف الأول الإعدادي، وتوافق هذا مع وجودي في أحد الفصول في حصة تربية دينية، فاصطحبه الأستاذ عبده إليّ، وطرق الباب..
فوجئت به يقدم الموجه مبتسمًا.. وكأنه يقول في سرِّه: (اشرب يا باشا..تلق وعدك.. جاءك الموجه يا مدرس يا جديد).
أغلق الأستاذ عبده باب الفصل علينا بسعادة غامرة، وكأنه يغلق مصيدة على فأر كم أتعبه، وقد أدخل إليه قطًّا، ولا أنسى ابتسامته ونظرته ذات المغزى وهو يغلق الباب؛ فلم يكن ينقصه سوى أن يخرج لسانه لي.
طلبت من التلاميذ القيام تحية للزائر، فقاموا، فأمرتهم بالقعود فقعدوا.. استأذن الموجه في أن يحضر الحصة وأن يقعد في آخر الفصل، وطلب مني أن أستمر في الشرح وكأنه غير موجود.. لقد بدا أن الموجه يريد أن يُقَيِّم طريقتي في الشرح.
كان الموضوع عن (التَّيَمُّم) وقد كنت كتبت على السبورة المعنى اللغوي والاصطلاحي له وعرَّفْتُ التلاميذ بهما، فقلت لهم والموجه بينهم:
قد عرفنا يا أبنائي معنى التَّيَمُّم وكيفيته.. والآن أريد أن أسألكم ما الذي نتعلمه من هذا الموضوع..؟
لم يجب أحد.
فقلت: سوف أسَهِّل السؤال عليكم..
ركزوا معي..
إذا كان الإسلام أمرنا بأن نتوضأ قبل الصلاة، فإذا لم نجد ماءً فعلينا أن نتيمم، ثم نصلى.. فما معنى هذا..؟
- رفع أحد التلاميذ يده.
- تفضل يا بني.
- معناه يا أستاذ أن الإسلام دين سهل وليس صعبًا.
- رائع يا بني.. يعني الدين يسرٌ وليس عسرًا.. هذا صحيح، ولكنني أريد معنًى آخر.
كان التلاميذ يتابعونني باهتمام، وبدا الموجه وكأنه لا يعرف هو أيضًا ما الذي أريده بالضبط، فلم يكن أقلَّ تركيزًا من التلاميذ.. فقلت لهم:
سوف أوضحها لكم؛ ومن سيعرف ما أعنيه فله مكافأة..
اسمعوا يا أبنائي..
لو أن أحدكم قال له أبوه: اذهب إلى المكان الفلاني واركب (تاكسي) فإن لم تجد فاركب (الأتوبيس) فإن لم تجد فاذهب ماشيًا المهم أن تذهب إلى هناك. فما معنى هذا..؟
فقال أحد التلاميذ: معناه أن ذلك (المشوار) مهم جدًّا يا أستاذ ولا يمكن إلغاؤه أو تأخيره.
فقلت: رائع أنت ممتاز.. فإذا أمرنا الله بأن نتوضأ لنذهب إلى الصلاة، فإن لم نجد الماء نتيمم بالتراب الطاهر أو غيره لنذهب إلى الصلاة، فما معنى هذا..؟
فقال أحد التلاميذ: عرفت معناه..؟
- ماذا يا بني.
- معناه أن الصلاة مهمة جدًّا ولا ينبغي لنا أن نؤخرها أو نتركها لأي سبب.
- رائع هذا ما كنت أريده.. فلنحَيِّ جميعًا زميلَكُم .. (وصفقت معهم).
لو تأملنا موضوع التيمم يا أبنائي لأدركنا أن الصلاة مهمة جدًّا ولا عذر للمسلم في تركها أبدًا.. تخيلوا أن الوضوء الذي نغسل فيه كذا وكذا ثلاث مرات.. يُغني عنه أن نضرب بكفينا على تراب أو حجر طاهر ونمسح يدينا ووجهنا فقط.. ثم نصلي..؟! أليس هذا دليلًا على أهمية الصلاة وعدم إهمالها، ولو في أشد الظروف، وليسَ أشدَّ على الإنسان من ألَّا يجد الماء..؟
كنت أتكلم اللغة العربية السهلة البسيطة، وقبل أن أمضي في الدرس قام الموجه وحياني وسلَّم عليَّ بحرارة ثم شكرني، واستأذن في الانصراف، دون أن يوجه سؤالًا للتلاميذ، لقد كان كالضيف الخفيف، فلم نشعر بوجوده مطلقًا.
ومضى إلى الأستاذ عبده منصور ثم غادر المدرسة..
انحنى الأستاذ عبده منصور ليقرأ ما كتبه الموجه في دفتر الزيارات:
«زرت المدرسة، وحضرت حصة تربية دينية في فصل أولى سادس، للأستاذ إيهاب عبد السلام، ولم أكن أتوقع أن أستمع لمدرس حديث العمل يستطيع أن يشرح درس تربية دينية بهذا التشويق وبتلك الإثارة، وبهذه الطريقة التفاعلية المبدعة، لقد فوجئت حقًّا بطريقة المدرس الرائعة، كل التقدير والاحترام للمدرس وللمدرسة وإدارتها». وفي الطرقة الممتدة أمام حجرة عبده منصور وجدته يقابلني بوجه جديد تمامًا.
.........
يتبع
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: