الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء الثامن)

شارك :

خزانة الأديب :
عبده الإمام مدرس أول الرياضيات، أمرد ولكن تنبت شعرات متناثرة في وجهه تشبه تلك الأعشاب النادرة في الصحراء القاحلة، وبالفعل كان وجهه خاليًا من أية دلالات الخير، كالح مالح، يجمع الإتاوة الشهرية من مدرسي الرياضيات ليقدمها دفعة واحدة لعبده منصور، يحرص على أن يبدو كأنه مثقف دينيًّا أو أنه ذو علم بالدين، ويبدو أنه ينتمي لتيار ديني، يهتم بأمور شكلية وعبارات مجوفة دون فقه قويم أو سلوك سليم، يكفي أن تتعامل معه مرة أو مرتين لتكرهه من كل قلبك.

في يوم أقبلت عليه بلهفة وهو بين الزملاء في حجرة المدرسين، وقلت له:
صورة يا أستاذ عبده الإمام، أحتاج لصورة لحضرتك ضروري جدًّا وبشكل عاجل جدًّا أرجوك، ويا ليتها تكون كبيرة بقدر المستطاع.
ابتسم ابتسامة المعجب بنفسه وتساءل: لماذا يا أستاذ إيهاب.. خيرًا..؟
فقلت: أنهيت مع أسرة الصحافة المدرسية مجلة عن تلوث البيئة، ولم تبق إلا صورتك نريد أن تتوسط المجلة كعلامة بارزة لهذا التلوث.

كانت المفاجأة صادمة له، فلم يعتد هو ولا غيره مني هذه الدعابة من قبل، أما الزملاء فغرقوا في ضحكهم، ووقع عبده الإمام في حيرة من أمره؛ أيأخذ الموضوع مأخذ الجد فيغضب ويعمل منه حكاية، أم يعتبرها دعابة والسلام..؟!

دقيقة كاملة مرَّت مرور الدهر عليه وهو سامد النظرة مُتَّقِدٌ كجمرة، ثم نهض واقفًا وقال: عيب يا أستاذ إيهاب؛ أنا لا أقبل منك هذا.
فقلت بكل هدوء: الأمر بسيط فلا تغضب؛ ما دمت لا تقبل فارفض إعطاءنا الصورة؛ يا سيدي نصورك نحن.

علت الضحكات من المدرسين مرة أخرى، أما عبده الإمام فانطلق إلى مكتب عبده منصور، يبدو أنه كان ينوي أن يشكوني، ولكنه عندما وصل إليه لم يدرِ ماذا يقول، فلو أخبره بما حدث لضحك منه عبده منصور ذاته، ولم يأخذ الموضوع مأخذ الجد، بل ربما قال له: (بصراحة الأستاذ إيهاب عنده حق حضرتك معفن يا أستاذ عبده الإمام).

ولذلك اكتفى بأن يشكوني إجمالا دون تحديد لموضوع الشكوى طالبًا من عبده منصور أن ينبه عليَّ بألا أتعرض إليه مطلقًا لا بالشر ولا بالخير، وإلاَّ وإلاّ.. ولكن من ذلك اليوم أصبح عبده الإمام يحاول أن يتصيد لي أخطاءً بأي شكل، ويتلمس أي مدخل لإيذائي، أو على الأقل لإظهاري جاهلًا.

وفي يومٍ كنت أقرأ في كتاب (فن الأدب) لشوبنهاور وقد أعجبت بأسلوبه وبيانه، فقلت لزميل لي من مدرسي اللغة العربية والأستاذ عبده الإمام يسمعنا:
إنني أحترم شوبنهاور جدًّا فهو يتمتع بذكاء خاص.
فقال عبده الإمام غاضبًا: اتق الله يا مدرس الدين، بل هذا الرجل غبي شديد الغباء..؟!
فقلت: لماذا..؟ وما علاقة التقوى بإعجابي بذكاء شوبنهاور..؟
فقال عبده الإمام: لو كان ذكيًّا لأسلم؛ فكل من لم يسلم فهو غبي.

لا أنكر أنني أصبت بصدمة من كلامه في الوهلة الأولى، وأُخِذْتُ للحظات، وخفت أن أكون جاهلا بمعايير الذكاء، مما يجعلني أتخبط إلى هذا الحد فأرى الغبي ذكيًّا.. ولكنني فكرت لحظة، ثم بحلقت فيه قائلًا:
ألم يستَعِن النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعبد الله بن أريقط وهو كافر ليكون دليله في الهجرة..؟ هل تعتقد أن النبي عليه السلام استعان برجل غبي ليضلله..؟!
ألم يذكر النبي عليه الصلاة والسلام للصحابة وهم مقبلون على غزوة بدر، وقد رأى عتبة بن ربيعة على جمل أحمر أنه إِنْ يكُنْ عند أحدٍ من القوم خيرٌ، فعند صاحب الجمل الأَحمر، إِن يُطيعوهُ يَرْشُدُوا..؟ وكان عتبة بن ربيعة كافرًا بين كافرين، ولكنه كان راجحَ العقل، وقد علِمَ الصحابة بعد ذلك أنه كان يريد الرجوع إلى مكة دون الدخول في حرب مع النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لولا إصرار أبي جهل..؟!

كان عبده الإمام يستمع إليَّ ساكتًا، فأكملت:
ثم ألستَ يا مدرِّس أوَّل الرياضيات تعلِّمُ التلاميذ نظرية فيثاغورث ونظرية إقليدس وغيرهما..؟ ألَا تعلم أنهم وثنيون.. كيف يا محترم تعلم أبناءنا كلام هؤلاء الأغبياء..؟ ابتسم عبده الإمام ابتسامة الجاهل، ولم يجد ما يرد به، فقام من مكانه وخرج من الحجرة، ثم التفت إلي قائلاً: أنت تجيد الجدال، ولكنك مخطئ، وسوف آتي إليك بمن يصحح لك أخطاءك. ويعلمك صحيح الإسلام.
قلت: أنا في انتظاره.. لكن أرجوك يا أستاذ عبده الإمام لا تنسَ.
قال: لا أنسى ماذا..؟
قلت: الصوووووووورة.
.........
يتبع
شارك :

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: