الأستاذ عليٌّ أحد أفراد أسرة اللغة العربية أقرب الزملاء إليَّ، فنحن ندرس معًا الماجستير، ونَعُدُّ التدريس مرحلة سنتجاوزها عندما نحصل على الدكتوراه، ونبحث بها عن عمل أفضل حالًا ومالًا.
في بداية العام الدراسي أقْبَل عليَّ قائلا:
- تعالَ نعمل أنا وأنت كما عمل مدرسو أسرة المواد الاجتماعية.
- وماذا عملوا..؟
- أدْخُلُ فصولك وتدخل فصولي، ونؤدي (سيناريو) واحدًا، سأسأل التلاميذ مَنِ الَّذِي يعطيكم اللغة العربية..؟ سيقولون أستاذ إيهاب، فأقول لهم: «يا ولاد المحظوظة؛ دا أحسن مدرس في مصر، اتفقتم معه على الدروس ولا لسه...؟ الحقوه بسرعة، اللي مش حَيِتِّفِقْ معاه خلال الأسبوع ده مش حيلاقي مكان...إلخ».
وأنت تقوم بالدور نفسه في فصولي، مدرسو المواد الاجتماعية قاموا بهذه الثنائيات يا صديقي، وما شاء الله عليهم، كُلٌّ منهم اتفق على عشر مجموعات على الأقل، لا بد أن ندرك تلاميذنا قبل أن يختطفهم أحد منَّا.
كان راتب الحكومة ثلاثة وسبعين جنيهًا، والحوافز ثلاثون جنيها كل ثلاثة شهور، يعني إجمالي دخلي من التدريس ثمانون جنيها تقريبًا، وفي ذلك الحين لم تكن المراكز المسماه (سناتر) قد ابْتُدِعَتْ بَعْدُ، فكانت الدروس تُعْطَى في بيوت التلاميذ في مجموعات، كل مجموعة خمسة تلاميذ، التلميذ عشرون جنيهًا، يعني مئة جنيه مقابل ساعتين في الأسبوع.
مما يجعل المدرس يدور طارِقًا الأبواب، وقد كنت أرى هذا مهانة أي مهانة، فالعلم يُؤْتَى ولا يدور على بيوت الناس، فضلا عن أنني لم أستسغ أبدًا أن أمدَّ يدي لتلميذ لآخذ منه مالًا، خاصة إذا كان منوطًا بي تعليمه في المدرسة؛ فكأنني قَصَّرْتُ معه وجئت لأسرق مال أبيه..!! لم أكن أرى الأمر إلا على هذا الوجه، فقلت لعلي:
- للأسف لن أستطيع يا صديقي أن أقوم بهذا الدور، هذا تغرير بهؤلاء الأطفال الأبرياء، ثم إنني لا أستسيغ مطلقًا أن أدور على البيوت، أمد يدي لتلاميذي أو لأهاليهم، أنا أصلًا ضد فكرة الدروس والمجموعات.
أطرق عليٌّ لحظات ثم قال:
- كان سيدنا أبو بكر -رضي الله عنه- يساوي بين المسلمين في العطاء. فلما خَلِفَه عمر قال: لا أساوي من حارب رسول الله بمن حارب مع رسول الله. ثم رتَّبَ الناس، فكان أوّلَهم سيدنا عليٌّ، فكان أكثر الناس عطاءً من بيت المال، ومع ذلك كان يتصدق بعطائه كاملا، لا يُدْخِل بيته منه درهما، ثم يذهب ليعمل أجيرًا في القبائل، يرعى إبلهم، أو يقوم على شأنهم، ليأكل من عمل يده. نحن يا إيهاب لسنا أفضل من سيدنا علي، فلا بأس إذا أجَّرنَا أنفسنا، ودخلنا بيوت الناس نُعلم أبناءهم.
ابتسمت من كلام عليٍّ، وقلت: ليس أخطر على المثقف من ثقافته حين يسخرها لتبرير رغباته، وبسبب منطقك هذا كان سيدنا عمر لا يُوَلِّي عبد الله بن عباس؛ لأنه فقيه، وسوف يفتي لنفسه، ولن يغلبه أحد في الفتوى والتأويل.
في خلال أسبوعين كان عليٌّ قد استكمل مجموعاته مستعينا بزميل غيري، وشَغَلَ جميع أوقاتِهِ، ولم أحقق أنا شيئا من ذلك، ولم أسْعَ إليهِ أصلًا، وعندما قال لي باولو: «الدُّنْيَا زَيّ قَطْر ماشي وما بِيَقَفْش، والشاطر اللي يجري ينط فيه عشان يِغَيّر من حياته»... تدبرتها كثيرًا، وتساءلت في نفسي: تُرى هل سأظل واقفًا في المحطة ذاتها، أم سأقفز يومًا في ذلك القطار؟ وأي باب ذلك الذي سأقفز منه؟ ليس أمامي كمدرس إلا تلك الأبواب (أبواب الدروس الخصوصية)، ولكنني أوصدتها بقرار نهائي بالضبة والمفتاح.
كنت في ذلك الوقت ساكنا في حجرة في منطقة (أبو قتادة) مع زميل لي، نتقاسم إيجارها، فكنت أدفع 25 جنيها نصف إيجار الحجرة، ويبقى من الثمانين 55 جنيهًا، هي كل الحياة خلال الشهر.
لم يكن متاحًا لي في التنقل من السكن إلى المدرسة إلا الأتوبيس وحده لا سواه؛ عشرون قرشًا ذهابًا وإيابا، فكنت أقف لانتظاره قل ساعة أو ساعتين يوميًّا في الموضع ذاته، أعيش في عوالمي الشعرية، مردِّدًا ما أحفظه، أو أحفظ ما أرَدِّدُه، وما يضيرني في الوقت إن طال أو قصر ما دمت أحمل عالَمِي بداخلي..؟!
وفي ذلك اليوم الكئيب بعد حادثة الصناديق، ذهبت لشراء اللّب، ففوجئت بصاحب المقلى يقول لي بلهجة لائمة حادة:
- أنت عملت لنفسك مشكلة كبيرة وأنا اللي طلعتك منها.
- فيه إيه يا عم الحاج... أنا عملت إيه..؟!
- المقلى دي اتسرقت من أسبوع، وكل العمال قالوا أكيد الشاب الطويل الأبيضاني اللي بيقف كل يوم بالساعة والساعتين قبالنا كان بيخطط لسرقتها، وكانوا عايزين يبلغوا عنك الشرطة، أنا اللي قلت لهم: يا غبي منك له، الوِشّ دا مستحيل يكون وِشّ حرامي، دا واحد بيقف يستنى الأتوبيس.
ثم قال بلهجة أبوية حانية: يا ابني ما تبقاش تقف في حتة واحدة يوميًّا بالساعة والساعتين. ابقى غَيَّر المكان.
- قلت له وقد ذُهِلْتُ مما سمعت: طيب ولقيتوا الحرامي؟!
- فقال: أيوه طلع واحد كان شغال معانا.
فشكرته وذهبت لانتظار الأتوبيس (في قلب محطته طَبْعًا).
كان صديقي في السكن من قرية ميت العامل دقهلية، وفي المساء زارنا ضيفان حديثا التخرج من معارفه بقريته، وقد نزلا القاهرة للبحث عن عمل، ويبدو أنهما لم يجدا عملا لمدة أسبوع من البحث، فلجأا إلى المبيت معنَا، ريثما يستكملان البحث أو يعودان إلى قريتهما. رحبنا بهما، وفي تلك الليلة كانا يتحاوران ويتعاتبان بحدة لم تعجبني. ولم أكن أعلم أنهما بعد ذلك سيكونان أقرب صديقين إليَّ وأحبّهما، وفضلا عن ذلك لم يكونا في حقيقة الأمر سوى رسولين أرسلهما الله لي تحديدًا، ليتسببا في فتح باب ولا أوسع، ولا أشرف منه، لأقفز من خلاله في قطار باوْلو.
........
يتبع
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: