قرأتُ في الفقه أنه إذا وقع إنسان على بهيمة، كانت العقوبة قتل الاثنين؛ قلت: ذلك عقاب الإنسان؟ فلماذا تُقْتَل البهيمة؟ قيل: لغلق الموضوع فلا تُثَار فتنة؛ فيقال: هذه البهيمة هي من كان كذا وكذا.
وإذا رَمَى أحدٌ المحصنات، جُلِدَ ثمانين، وغُرِّبَ عامًا. قلت: لقد عُوقِبَ بَدَنِيًّا؛ فلماذا التغريبُ؟ قيلَ: لغَلْقِ الموضوع ريثما ينساه الناس وينشغلوا عنه.
تذكرت هذا في ذلك اليوم العجيب في المكتبة، فقد حدث ما لا يخطر ببال ولا يتوقعه خيال، في أحد الاجتماعات الشهرية الذكورية؛ بمجرد أن تلفظ عبده منصور بجملة، هبَّ من جانبي الأستاذ علي، زميلي في أسرة اللغة العربية والتربية الدينية، وأثناء قيامه كان قد انحنى وخلع فردة من حذائه وأصَرَّ على أن يضرب عبده منصور على رأسه بالحذاء، معلنًا أنه لن يرضيه أقل من هذا، ولا يردد إلا جملة واحدة: «اللي زَيَّك يا قذر لازم ينضرب بالجزمة على دماغه، ودا الرد الوحيد اللي يناسبه».
الأستاذ علي المؤدب جدًّا، باحث الماجستير المثقف، الخجول الهادئ، الذي يبدو أنه لم يتشاجر في حياته قط؛ اضطر إلى هذا..؟! لدرجة أنني كنت أوَّل من احتضنه بكل قوَّتِي محاولا إثناءه عن ضرب الأستاذ عبده.
قد يظن القارئ أني كنت أكره عبده منصور، في الواقع أنا لم أكرهه يومًا، وإن كرهتُ كلَّ أفعالِه، لكنني أيضًا لم أحبَّه قط، غاية الأمر أنني كنت أراه حالة أفرزتها سياسة تعليمية خاطئة، نتج عنها أن يدير إنسان مؤسسة تعليمية تضمُّ قرابة ألف تلميذ، وبها معلمون لفروع المعرفة المختلفة، في حين أنَّ ذلك الإنسان الذي يقودهم لم يقرأ كتابًا في حياتِه، ولم يقرأ حياتَه في كتاب، وقد كوَّن شخصيته وثقافته من صداقات وأقران مثله تمامًا، فلم يكن يتخيَّل أنَّ في الحياة إنسانًا مختلفًا عنه، يفكر بطريقة مختلفة، وله اهتمامات غير اهتماماته.
لم أكن محتاجًا بعد شهادة موجه التربية الدينية لأنْ أكره عبده منصور أو أحبَّه، بل لم أعد محتاجًا لمعارضته في حوار، أو التعقيب عليه، فقد تركني في حالي وتركته في حاله. ورغم ذلك وجدتني في ذلك الموقف مندفعًا للدفاع عنه بقُوَّة، وقد احتضنت زميلي الأستاذ عليًّا وهو مُصِرٌّ أمام جميع المدرسين أن يضرب عبده منصور بالحذاء على رأسه، ولن يرضى بأقل من ذلك.
ما جعلني أتعاطف مع عبده منصور محاولا ألا يصل الحذاء إلى رأسِهِ أنَّني كنت على يقين أن الرجل لا يفهم لماذا يستحق هذا الضَّرْب..؟! وقد بُهِتَ من ردِّ فعل الأستاذ علي، مع أنِّي لو كنت مكان عَلِيٍّ في هذا الموقف ربما ما احتجت للتلويح بالحذاء ومحاولة الوصول لرأسه منفلتًا من أجساد الزملاء، الذين وقفوا ككتل بشرية تحول دون ذلك. بَلْ كنت سَأُصَوِّب فردَتَيّ الحذاء متتاليتين مباشرة تجاه رأس عبده منصور، حتى إذا طاشت إحداهما أصابت الأخرى، وإن نجحتا الاثنتان فبالهناء والشفاء يستحق وزيادة، ولكن الإنسان وهو خارج الموقف يكون عادةً أكثر ضَبْطًا للنَّفْس.
لم يكن درس التيمم إلا حصة من حصص موضوع الطهارة، وكان جميعه مُقَرَّرًا على تلاميذ الصف الأول الإعدادي، وعَلَى مدرس التربية الدينية أن يشرح في إحدى الحصص الطهارة من الحدث الأصغر والحدث الأكبر، أما الأصغر فأمره ميسور، وأما الأكبر فكان يحتاج إلى لباقة خاصة لتوصيله إلى التلاميذ في تلك السن دون حرج، وفي الوقت ذاته يطمئن المدرس إلى أنهم استوعبوه تمامًا، ولم يخرجوا من الحصة غير فاهمين.
دار الأستاذ علي -الخجول بطبعه- حول الموضوع في فصل من فصوله، ولمَّح ولم يُصَرِّح، وأفصَحَ ولم يُوَضِّحْ، وإذا بتلميذ يسأله: «يعني يا أستاذ لو بابا نام جنب ماما يبقى لازم يتشطف؟».
وقع الأستاذ علي في حَيْصَ بَيْصَ؛ فلو قال: «نعم». لأخطأ. ولو قال: «لا» لأخطأ أيضًا. وليس أشد على المرء من أن يُوَاجَهَ بسؤال لا تصلح إجابته بـ(نعم) أو (لا) فكلاهما مريح، وما سواهما مرهق.
احمرَّ وجه الأستاذ عليّ للحظات، ثم قال موجِّهًا كلامه للتلاميذ جميعًا: «الموضوع ليسَ في النوم يا أبنائي، قد ينام الإنسان ويستيقظ ولا يلمس زوجته، يعني... فاهمين...؟ أصل... ممكن يعني... يحدث شيء... فاهمين يا ولاد؟».
كان الأستاذ عليّ يتكلم وقد رفع يده اليمنى بمحاذاة أذنه اليمنى، وقد قبضها وأشار بإبهامه للخلف كمن يُذَكِّرُ إنسانًا بشيء نساه أو لم ينتبه إليه، وظلَّ يحوم ويشير خلف أذُنِهِ حتى رَدَّ التلاميذ: فاهمين يا أستاذ. فأزاحوا عن كاهله هذا الهمَّ الثقيل، فقلبَ الصفحة، وغَيَّرَ الموضوع.
ذهب التلميذ السائل إلى بيته، وجلس –مِنْهُ لله- مع أبيه، وقال له الأستاذ علَّمَنَا اليوم الطهارة من الحدث الأكبر. وقال لنا إن الزوج عندما ينام مع زوجته يجب أن يغتسل. فسأله أبوه: كيف شرح لكم ذلك؟ فقال الطفل: «كان بيشاور بإيده».
ولأن والد التلميذ من الصنف ذاته الذي ينتمي إليه عبده بيه منصور، فلم يفهم تلك العبارة «بيشاور بإيده» إلا على وجه واحد، وتخيَّل هيئةً قذرة من خياله هو، فأنهى الحديث مع ابنه مباشرة، وفي الصباح سبقه إلى المدرسة، وانفرد بعبده منصور شاكيًا الأستاذ عليًّا (الذي لم يره في حياته) بأنه يشير بيده ليمثل موضوع الجماع للتلاميذ، وتلاقى الخيالان المريضان القذران؛ خيال والد التلميذ وخيال عبده منصور، فهما ينتسبان إلى مزبلة واحدة، ويفهمان بطريقة واحدة، ولأن الأستاذ عليًّا من الودعاء دافعي الإتاوة، وكان من (بروتوكولات) عبده منصور أن يحمل عن دافعي الإتاوة مشاكل الإدارة وأولياء الأمور، فقد استرضَى والد التلميذ، ووعده أن يتولى حساب المدرس بنفسه.
وفي الاجتماع أراد عبده منصور أن يستعرض بطولاتِه، وما يدفعه عن المدرسين من الأذَى فقال: حتى الأستاذ علي كان سيعمل لنفسه مشكلة كبيرة مع أحد أولياء الأمور، ولولا أن الرجل يحترمني ما انصرف إلا بتحرير محضر ضده.
وقبل أن يستفسر الأستاذ علي عن تلك المشكلة، سارع مدرس أول اللغة العربية بالسؤال: «عمل إيه الأستاذ علي يا أستاذ عبده؟!»
فقال وهو يمطُّ الكلام ويهزُّ رأسه يمنة ويسرة: الأستاااااذ بيكلم تلاميذ أولى إعدادي عن ...... وبيشاور بإيييييده (وَمَثَّل بيده حركة مُخْزِيَة).
تلك هي اللحظة التي انتفض فيها الأستاذ عليّ وقد رفع حذاءه وهو يقول: «اللِّي زيَّك يا قذر لازم ينضرِب بالجَّزْمَة على دماغه، ودا الردّ الوحيد اللي يناسبه».
ولم تنقطع دهشة عبده منصور من رد فعل الأستاذ علي إلا عندما يئس الأخير من التمكن من ضرب دماغ عبده منصور بالحذاء، فألقى الحذاء من يده، وأخذ يشرح ممثلا الفارق بين الإشارتين: «بشاور كده.. مش زي ما عملت أنت.. يا حيوان يا زبالة البشر».
بُهِتَ عبده منصور، وأُلجِمَ، وكَأنَّ شيئًا كالحيَاء اعتراه، ولكن مهما كان الأمر، فبَعْدَ التعدي بالحذاء وإطلاق هذه الشتائم، أصبح من الضروري التفريق بينهما. وهذا ما ذكَّرني بمسألتي قتل البهيمة، وتغريب قاذف المحصنات عامًا؛ حتى لا يقال كان كذا وكذا. لقد أصبح لِزَامًا التفريق بين عبده منصور والأستاذ علي... فمن الصعب أن يستمرَّا في مدرسة واحدة.
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: