الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء العاشر)

شارك :












قيل إن الجن سبقونا في سكن الأرض، وأفسدوا فيها، فأرسل الله الملائكة تحاربهم، فهزمتهم وأسرت في تلك الحرب طفلا جنيًّا صغيرًا بريئًا اسمه عزازيل، فأخذوه معهم، وتربي بين الملائكة، فلما أمرهم الله بالسجود لآدم لم يسجد، وذلك هو تاريخ إبليس.




تملكني شعور في تلك اللحظة، أن إبليس نفسه من مواليد هذا المكان الذي أقف فيه على وجه الكرة الأرضية، في تلك البقعة من قارة إفريقيا، ولمَ لا... ألسنا من قبل التاريخ..؟!




خلف فصول المدرسة ممر ضيق، لا يزيد اتساعه عن متر ونصف، وهو مغلق من الجانبين، وفي مواجهته ظَهْرُ البنايات التي في المنطقة، وهي أعلى بكثير من المدرسة، ولا توجد أية شبابيك أو فتحات فيها، ولكل فصل شباكان مفتوحان على ذلك الممر الضيق، ولأن الشبابيك في الدور الأول ومطلة على ممر مغلق من الجانبين ومِلْكٌ للمدرسة، فلم يكن هناك ما يدعو لوضع شَبَكٍ حديد عليها.




عندما نظرت في ركن الكهف، رأيت تلك الصناديق الثلاثة الخاصة بلجنة الانتخابات، ولم أكن محتاجا لأن أسأل باوْلو كيف تم استبدالها، مؤكَّد أنه قبع في ذلك الكهف من يقوم بالمهمة من خلال النافذتين، ولا تحتاج إلا لدقيقة واحدة.




اعتراني اكتئاب شديد، وتغير وجهي تمامًا، نظر إليَّ باولو وكأنه رأى إنسانا آخر غير ذلك البشوش الضحوك الذي يعرفه، فأقسم عليَّ ألا أنصرف قبل أن أقعد معه بعض الوقت، وكأنَّ باوْلو خشي من رد فعلي، لا ارتيابا في أمانتي معه، وإنما شَغَله تغيُّرِي المفاجئ.




قعدنا في حجرة باوْلو صامتين لدقائق، تعمد باوْلو أن يهتك حجاب هذا الصمت، ليجعلني أتكلم، فقال وهو منكب على الشيشة:




- مشكلتك يا بيه إنك لا بتشرب شيشة ولا سجاير، إمَّال بتطلع همومك في إيه بس؟




- قلت بعد تنهيدة طويلة: اللي بيحصل دا بيدمر البلد، ويقتل المستقبل، ويضيع أجيالا قادمة يا عم باوْلو.




وكأن باوْلو كان ينتظر كلامي ليرد عليه، فقال بحماس شديد:




- شوف يا أستاذ إيهاب، أنا ما بفهمش في الكلام الكبير ده، بس عايز أقول لك حاجة، المدرسة بتاعتنا دي تَلَتْ أدوار، والسلم بتاعها حوالي ستين سِلِّمَة، أنا كل يوم بشيل مقشتي وأكنسه وأنضفه سِلِّمَة سِلِّمَة من فوق لتحت.




- دا شُغلك يا عم باوْلو ودا إيه علاقته باللي حصل..؟!




- يا بيه أنا عارف إن اللي حصل دا حاجة أكيد وسخة، ووسخة قوي كمان، بس السّلّم بيتنضف من فوق مش من تحت، وأنا آخر سِلِّمَة من تحت، وأوَّل سِلِّمَة بتدوس عليها رجلين إللي عايز يطلع لفوق.




كانت هذه المرة الأولى التي أستمع فيها لهذا المثل، وتصافح أذني تلك الحكمة، وقد أُعجبت بها أيّما إعجاب، وقلت في نفسي: يبدو أنه ليس إبليس فقط هو من وُلِدَ في هذا المكان، بل لقمان الحكيم أيضا، الذي ذكره القرآن الكريم، وقد ذكر المفسرون أنه كان مصريَّ الجنسية، فقلت وقد امتلأ وجهي بابتسامتي: (السلم بيتنضف من فوق، آه والله عندك حق يا عم باوْلو، دي حكمة عظيمة فعلا).





انشرح صدر باوْلو عندما وجد ابتسامتي عادت إليَّ، وكأنها أزاحت عنه هما وتوجُّسًا.




كان الوقت قد تأخَّر، وعليَّ أن أنصرف، خاصَّة أنني سأستيقظ مبكرا للحضور إلى المدرسة، وقد أنتظر الأتوبيس الذي يحملني إلى سكني في منطقة (أبو قتادة) ساعة أو أكثر ككل يوم، وقلما حالفني الحظ ووجدته في انتظاري، ودَّعت باولو وطمأنته أني لم أرَ شيئًا، فابتسم وهو يقول:




- أنا مش قلقان منك أنا قلقان عليك، أنا عارف طبعك كويس... خليها على الله يا بيه دا مُلْكه وهو حر فيه.




اتخذت موقعا قبيل المحطة بقليل، كنت اعتدت انتظار الأتوبيس فيه بعيدًا عن زحام المحطة، وكنت لا أزال شاردًا في مشهد الصناديق، وعاودتني الكآبة من جديد، ولأنني لا أنفث السجائر، ولا الشيشة، فقد كانت ولا تزال عادتي أنني أُخْرِج همومي في قزقزة اللّب، وقعت عيني على المقلى المقابلة في الجهة الأخرى من الشارع، فعبرته لأشتري منها ما أفرغ به همي، ففوجئت بما لم أكن أتوقعه في حياتي.




داخل المقلى شيخ كبير، يبدو أنه صاحبها، يدير عمل المقلى من على مكتب صغير، ما إن وقعت عينه عليَّ، إلا أشار إليَّ أن تعالَ. فدخلت إليه.




- خير يا عم الحاج..؟

- أنت عملت لنفسك مشكلة كبيرة وأنا اللي طلعتك منها.


- أنا..؟!!!

- أيوة أنت.

- حضرتك تعرفني..؟

- لا.

- طيب تعرف اسمي إيه ولَّا أنا أعرفك..؟

- لا خالص... بس كنت حتودي نفسك في داهية لولا إني دافعت عنك.

قلت وقد احمرَّ وجهي أو اصفرَّ (لم أرَ اللون تحديدًا):

- فيه إيه يا عم الحاج... أنا عملت إيه..؟!

.......

يتبع
شارك :

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: