ما إنْ كُلِّفت بالتدريس إلَّا وطَّنْتُ نفسِي على أنه لا عُذْرَ لمعلِّمٍ في ضياعِ تِلميذٍ، فمستوى تلاميذي مسئوليتي مهما كانت الظروف، وكنت أتمثل كلمة ذلك الشيخ –أظنه أبا العباس المرسي- الذي طلب من تلاميذه أن يذكروا له عيوبه، فأطرقوا في خجل من تواضعه. فألحَّ عليهم أن يذكروا عيوبه.
فقال أحدهم ووجهه في الأرض: عيبك يا سيدي أنَّنَا تلاميذُك.
فإذا بالشيخ يبكي. فسألوه: ما الذي يبكيك؟
فقال: «إذا صَلُحَ المَرْكَبُ حَمَلَ مَا فِيه».
لقد جعلت من هذه الجملة مبدأ لعملي في التدريس، عليَّ أن أحمل تلاميذي، وهم أهم ما في المنظومة كلها، أما ما يحيط بهم فما أسرع زواله، يجب أن نحرص على نقائهم قبل أن ينخرطوا في سلم باوْلو، ذلك السلم الذي لا أمل في نظافته... لا من فوق ولا من تحت.
كنت حريصًا على محاورة تلاميذي كثيرًا، فأستمع إليهم كما يستمعون إليَّ، ولا أبدأُ الحصَّة إلا بعد مداعبة أحدهم بحديث ولو لدقيقة في أي شيء، ولا أزال أتذكر بعضهم، وأحفظ كلامهم.
من بين التلاميذ تلميذ اسمه هاشم، سوداني يقيم أبوه في القاهرة لمدة طويلة، فحمل أسرته معه من أم درمان، كان هاشم يقعد في التختة الأولى، في الصف الأوسط، أمام السبورة مباشرة، وكان قد أمضى الابتدائية كاملة في أم درمان، وبدأ الإعدادية في مدرسة الزعيم في قلب القاهرة. وكان يتكلم بلهجة سودانية محبَّبَة، تضفي على العربية جلالها. بدأتُ إحدَى الحصص بسؤاله:
- هل تشعر بفرق يا هاشم بين مصر والسودان؟
- أيوه يا أستاذ الفرق كبير.
- ما الفرق يا هاشم؟
- بلدكم جميلة يا أستاذ، لكن الناس مش ملتزمين، ما عندهمش أي انضباط.
- لماذا يا هاشم... ما الذي جعلك تقول هذا؟
- أقولك يا أستاذ؛ شوف كل يوم في الطابور كام أستاذ ماسكين خرزانات عشان يوقفوا التلاميذ ساكتين، أكتر من 10 أساتذة، ومفيش فايدة، الطابور دوشة... والله العظيم يا أستاذ في السودان الملعب عندنا رمل ومفيش سور، واحد اتهزّ في الطابور وقال آآآآه، جاله أستاذ بالخرزانة، الولد قال له: قرصتني عَقْرِبَة. والأستاذ شاف مكان القَرْصَة، فأخده وعالجه. وقال له: افتح إيديك عشان أضربك. قال له: تِضْرُبْني ليه يا أستاذ؟ قال له: عشان اتحركت وصرخت في الطابور. قال له: دا أنا قرصتني عقربة!! قال له: ما إحنا عالجناك من القَرْصَة، لكن لازم تنضرب عشان اتحركت وصرخت.
قلتُ مُنْدِهشًا: وهل ضربه الأستاذ بالفعل؟
فرَدَّ هاشم: أيوه ضربه بالخرزانة على إيديه.
سألت التلاميذ جميعًا: ما رأيكم فيما فعله الأستاذ، صح أم خطأ؟
رَدُّوا جميعًا بأصوات مختلطة تُخَطِّئُ الأستاذ، فأمرتهم بالسكوت فسكتوا.
قلت: من يرى الأستاذ مخطئا فليرفع يده.
فرفعوا جميعًا أيديهم ما عدا هاشما.
قلت: من يرى الأستاذ على حق فليرفع يده. فلم يرفع أحد يده إلا هاشم فقط.
قلت: يا هاشم، الجميع يرون الأستاذ مخطئًا؛ لأن الولد ضُرِبَ مظلومًا، لأن العقرب قرصته، فكيف تؤيِّد أنت ما فعله الأستاذ..؟!
فقال هاشم بلهجته السودانية:
«يا أستاذ لو مَا ضربه، كل شوية واحد حا يتحرك ويصرخ ويتنطط، ويقول أصل كان فيه عقربة معدية تحت رجلي، والطابور يفقد السيطرة، يبقى لازم ينضرب».
قلت في نَفْسِي: (ما الذي وضعني في هذه الورطة..؟ أنا اللي جبته لنفسي... ) والحقيقة أنني لم أستطع أن أطمَئِنّ بين نفسي لِرَأْيٍ في الموضوع؛ فكلام هاشم مقنع، لكنِّي لا أُقِرُّ الظّلم أبدًا، فلم أجد إلا الهروب إلى الأمام، فشكرت هاشِمًا، وغيَّرْت الموضوع قائلا: والآن نبدأ حصة اليوم، أخرجوا كِتَابَ النّصوص، لدينا نَصّ حديث شريف عن حق الجار.
والتفتُّ إلى السبورة وكتبت الحديث؛ قال صلى الله عليه وسلم: «أتدرونَ ما حقُّ الجارِ إنِ استعانَك أعنتَه...» إلى أن قال: «ولا تؤذِهِ بقِتارِ قِدرِكَ إلَّا أن تغرِفَ لهُ منها».
شرحتُ الوصايا التِّسْع التي اشتمل عليها الحديث، وعندما وصلت إلى الوصيّة الأخيرة، قلت للتلاميذ: أتدرون معنى (قِتَار قِدْرك)؟ يعني الدخان الذي يحمل رائحة الطعام، إذا وصل الجيران وشَمُّوا رائحة الطبيخ الذي نطبخه فعلينا أن نهدي لهم طبقًا منه.
وإذا بالتلميذ إبراهيم القاعد بجوار هاشم يرفع يده.
- تفضل يا إبراهيم.
- يا أستاذ إحنا ساكنين في شقة في عمارة، والمطابخ مفتوحة على المنور، وريحة الطبيخ كده كده بتوصل للجيران، يبقى لازم كل ما نطبخ نديهم طبق منه..؟!
لم أردّ... وبحلقت في إبراهيم (كنت أفكر في الإجابة) فإذا بالولد يكمل من نفسه:
- ممكن يا أستاذ لو كنا عاملين بسبوسة، أو كيكة، أو حتى مهلبية أو رز بلبن، نهدي لهم منه... معقولة. لكن الطبيخ ما يصحش، عيب، دا ممكن يزعلهم.
قلت في نفسي: (هو أنا جَايّ أعلِّم العيال، ولا جَايّ أتعلِّم منهم؟ والوزارة ما كتبتش الكلام دا ليه؟ الله يخربيت الوزارة على بيت الهَمِّ اللي احنا فيه... هي ناقصة إننا نسمع كلمتين من العيال).
شكرت إبراهيم، وتداركت بسرعة: نعم يا أبنائي، هذا هو المقصود من الحديث الشريف، أن نفعل مع جيراننا ما يسعدهم، ونمنع عنهم ما يؤذيهم، وهذا يا أبنائي يختلف حسب حالة الجار ومكانه، فالجار في الشقة المجاورة، غير الجار صاحب الفيلا المجاورة، غير الجار في الخيمة المجاورة في الصحراء... وهكذا. أما التلميذ جمال، وكان يقعد مع إبراهيم وهاشم في التختة الأولى، فكان أمره عجبًا.
.........
يتبع
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: