الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء الرابع عشر)

شارك :




تلك المدرسة ذات الأكثر من أربعين مدرسًا غير الإداريين، منهم ستة كنت أسميهم الغرباء، فلا تكاد تسمع لهم صوتًا، يعيشون في حالهم، ضحكهم ابتسام، وخطابهم بأقل الكلام، يحسبهم من لا يعرفهم ضيوفًا في المدرسة، وقد تنوعوا بين الشيب والشباب، ثلاثة من الشباب وثلاثة من الشيوخ، بعضهم يدفع الإتاوة في هدوء لعبده منصور عن طريق المدرّس الأول، وبعضهم لا أعرف من أمره شيئًا.

وفي وقت الصلاة تجد خمسة منهم في المسجد، فكان الفصل المقابل للكهف في الناحية الأخرى أمام بير السلم الآخر قد اتُّخِذَ مسجدًا، وفُرِشَ بالحصير الأخضر، وتجد في المسجد مع هؤلاء الطيبين عبده الإمام، الذي لم يكن منهم بل كان غارقا في الوساخة، متزلِّفًا لعبده منصور بالنفاق، فاتنا على المدرسين، يخبر (عبده منصور) بمن يعطي دروسًا ولا يقدم إتاوات، ولكنه كان يؤدي حركات الصلاة في المسجد مع هؤلاء الخمسة.

الستة هم: زميلاي عمرو وعلي، وعادل مدرس الرياضيات، هؤلاء هم الشباب. أما الشيوخ فالأستاذ محمد مدرس أول المواد الاجتماعية، والأستاذ غريب مدرس أول العلوم، والأستاذ نظمي الناظر الذي انضم حديثًا إلى المدرسة.
وهذا الأخير هو الذي لم يكن يدخل المسجد؛ لأنه مسيحي، وقد ربطني بهم جميعا وُدٌّ متبادل، رغم أننا لم نكن نتبادل الحديث إلا قليلا. ما عدا الأستاذ نظمي، فقد حرص على الحديث معي يوميًّا، وكان يقول لي: (أنا أعتبرك ابني يا أستاذ إيهاب وكم كنت أتمنى أن يكون ابني مثلك في كل شيء).

كان الأستاذ نظمي قصيرًا بدينًا، في هيئة الممثل الذي يُدْعى: (جورج سيدهم) بالتمام، وله عينان واسعتان بارزتان بوضوح، دائمتا البريق، دائما يستوقفني ليتكلم معي، ولأنني أطول منه، كان يمسك يدي ويرفع وجهه تجاهي، وقد يتكلم لدقائق وهو محملق في وجهي دون أن يُغمض له رِمْش، والعجيب في أستاذ نظمي أنه كان يحفظ سورًا كاملة من القرآن الكريم، فضلا عن العديد من الأحاديث النبوية، ولأنه جاءنا ناظرًا فلم يكن له عمل كثير في المدرسة، فقد ألغى عبده منصور دوره تمامًا، ولم تكن للرجل أية مآرب، يأتي في سلام، ويمضي في سلام. قلت له يومًا:
- من أين لك هذه الثقافة الإسلامية يا عم نظمي؟
- أنا اتعلمت في مدارس داخلية إسلامية، على يد أساتذة ما شاء الله عليهم كانوا قديسين سلوكًا والتزاما وأخلاقًا؛ وكنت بصوم رمضان كمان وبفطر معاهم.
كان هو الوحيد الذي يسألني عما وصلت إليه في الدراسات العليا، ويدفعني دفعًا للإنجاز وسرعة الحصول على الماجستير والدكتوراه لمغادرة بيئة المدرسة، ولم يكن عمّ نظمي يخفي عني شيئا من أموره الشخصية، وكان دائم الشكوى من ابنه وابنته وزوجته، فلم يكونوا يطيعونه في شيء، ويقول: (لو عندنا طلاق كنت طلقتها فورًا... لكن ما عندناش يا ابني). كم كنت مشفقًا عليه، ولا أدري كيف أساعده؟

كان كثيرا ما يردد أمامي الآية الكريمة: «وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ»؛ ثم يشير بإصبعيه السبابة والوسطى ويقول: واخد بالك يا أستاذ إيهاب؛ (اصْطَفَاكِ... واصْطَفَاكِ) الاصطفاء مرتييييين مش مرة واحدة!!

وذات مرة وهو يردد الآية ويعيد تأكيد الاصطفاء مرتين، قلت له:
- فيه إيه يا عم نظمي، مرتين ولا حتَّى عشرة.. أنت إيه مشكلتك..؟ وبعدين لو بستدل بالآية على معنى مُعَيَّن تبقى مؤمن بإنه كلام ربنا، ودا يلزمك بإنك تسلم.
- فقال وقد شد على يدي وازدادت عيناه بريقًا: أنا منقوع في الصليب، الصليب بيجري في دمِّي يا ابني، أنا مؤمن بيه، ومقدرش أتخلَّى عن إيماني، معنديش مشكلة مع الإسلام غير الصَّليب. تعرف يا إيهاب؛ لو كان في الإسلام صَلْب كنت أسلمت.
- طيب لو عندك مشكلة في فهم الآية، اسمع الشيخ الشعراوي وهو حا يفسر لك معناها.
- شعراوي مين يا ابني، اللي بيقوله الشيخ الشعراوي دا كلام طيِّب، بس دي خواطر مش تفسير ممنهج، المفسرين العظام اللي لهم مناهج كانوا زمان، زي الفخر الرازي، والطبري، والقرطبي، وغيرهم... هو أنتم في الزمن دا عندكم مفسرين؟! دا حتى الشّعر بوظتوه؛ جاتكم ستين خيبة!! كان الظّهر قد أذَّن، فاستأذنت عمّ نظمي لأصلي مع الموجود في المسجد من الخمسة المصلِّين، وهناك وجدتهم جميعًا، ومعهم عبده الإمام يهمس فِيهِم بأمرٍ ما، ومعه ورقة فلوسكاب كبيرة، كتب نصفها وترك النصف الآخر للتوقيعات، ابتسم ابتسامته الصفراء عندما رآني. وقال:
- كويس إن الأستاذ إيهاب جه، أنت طبعًا معانا.
- معاكم في إيه إن شاء الله..؟!
- خذ وقَّعْ علَى دِي... دي شكوى للإدارة في عبده منصور، كتبنا فيها كل بلاويه، إن شاء الله هو اللي حيمشي من المدرسة، مش الأستاذ علي.
.........
يتبع
شارك :

أحدث المنشورات

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: