من مذكرات مدرس (15)
كان المعتاد أن يجمع المدرس الأوَّل من مدرسيه العشرينات ويدفعها لعبده منصور دفعة واحدة، إلا أسرة اللغة العربية، فكان هذا الأمر يتم فرادى، ولعل سبب ذلك أنه لا يليق بمدرسي الدين أن يجتمعوا على ضلالة، أو المجاهرة بالمعصية، وأضعف الإيمان في ذلك هو التستر، عملا بمدأ (إذا ابتليتم فاستتروا)، وإن كان عبده منصور لا يعنيه ذلك مطلقا، بل كان يفضل أن يكون في النور ودون أية تورية، لدرجة أن زميلا في أسرة اللغة العربية تعرض لموقف مخجل حين قدم إلى المدرسة، حيث نصحه عبده الإمام بأن يسارع آخر الشهر بدفع العشرين جنيها، ولم يمانع الزميل، ولكنه تحير كيف يدفعها، ثم تفتقت عبقريته عن أن يقول لعبده منصور منفردًا: خد دي لمسجد المدرسة.
وإذا بعبده منصور يحتد غاضبا: «أنا ما باخدش حاجة للمسجد يا أستاذ، اتفضل حضرتك، المسجد تحت، روح حطها فيه، أو اشتريله حاجة».
ارتبك الزميل، واصفرَّ وجهه، وظن أنه ارتكب خطأ كبيرًا، فخرج يعاتب عبده الإمام على توريطه إياه، على أساس أن المدير شريف، وإذا بعبده الإمام يأخذه من يده ويدخل على عبده منصور، فبادرهما الأخير قائلا بغضب وبصوت مرتفع:
«الأستاذ بيقول لي خد للمسجد، لو عايز يديني يقول لي خد ليك أنت، وإلا حتبقى أمانة مقدرش آخدها».
ابتسم الزميل، وكأنه خرج من تهمة قد تلقي به في السجن. ثم مدَّ يده لعبده منصور بالعشرين جنيها: «اتفضل حضرتك يا أستاذنا، أنت على دماغي والله».
لم أتفاجأ بانقلاب عبده الإمام على عبده منصور، فلم يكن وُدُّهما إلا في الشرِّ والفساد، ومع ذلك لم أجد ما يجعلني أوقِّع على تلك الشكوى، فقلت له بعد أن قرأتها:
الشكوى تدور حول أن المدير يتقاضى أموالا من المدرسين، وأنا لم أدفع مليما له، والرجل لم يسئ إليَّ قَط، بل أنا الذي أعترض عليه أولا بأول، فلماذا أشكوه..؟! أنت يا أستاذ من صنعت هذا الفساد وصانعته، أما أنا فلم أصنعه ولم أصانعه.
ابتسم زميلي الأستاذ علي وقال لعبده الإمام: «فاهم الفرق بين صنعته وصانعته...؟ حلوة دي يا عم إيهاب».
فقال عبده الإمام: «المفترض إنك مربي فاضل، وعليك أن تواجه الفساد معنا يا أستاذ إيهاب، فلا تتخلَّ عن واجبك».
فقلت: «نعم أنا مربي، جئت لأعلم التلاميذ وأربيهم، وما جئت لأربي مدير المدرسة، يا سيد عبده، إن الله سيسألني عن تلاميذي، ولا أظنه سيسألني عن المدير، أنا لا أعطيته شيئا، ولا سكت عندما استمعت إليه، بل راجعته في الحال... لماذا أشكوه إذن..؟».
لم يرد، فاستطردت:
«ثم تعالَ هنا، هذه الأموال إما أن تكون هدية، أو رشوة، فإذا كانت هدية، فلا داعي للشكوى، وإذا كانت رشوة، فهي جريمة ينبغي أن تشمل الشكوى المرتشى والراشي معًا؛ يعني أنا إذا تدخلت في هذا الموضوع فلن أستثنيَ أحدًا ولو وزير التعليم نفسه».
بُهِتَ عبده الإمام من كلامي، ولولا تأكده من أن موضوع الشكوى سيصل عبده منصور لا محالة، لطواها في جيبه وكفى على الخبر ماجورًا، ولكن كان عليه أن يمضي للنهاية، فقد أشعل الثورة وتراجعه قد يقضي عليه تماما، ولكنه أيقن أن إبعادي عن الأمر كله أفضل له».
توجهت لزميلي عليٍّ قائلا: «لا تسمح لعبده الإمام أن يتخذك شبكة للاصطياد في الماء العكر، موضوعك مع المدير بسيط، والرجل فهم خطأ، وأنت أخذت بحقك ومسحت به المكتبة، بل المدرسة كلها، حتى لو تركت أنت المدرسة أكيد ستذهب للأفضل... لكن لا تجعل أحدًا يصفي حسابات قذرة عن طريقك.
يا عبده يا إمام، أنا لا أمنعك من الشكوى، ولا أدفعك إليها، لكن هذا الأمر لا يعنيني مطلقًا، وإذا سُئِلتُ فسأشهد بكل ما أعلم ولن أخفي شيئا... وأكررها لك ولغيرك: عندي حوالي أكثر من مئة تلميذ، مسئوليتي أن أصنع منهم ملائكة، لا أن أواجه الشياطين مثل عبده منصور، ولا أشياعهم مثل حضرتك».
ثم قلت للأستاذ محمد مدرس أول المواد الاجتماعية: «لو سمحت عشان عندي حصة الآن أريد خارطة شمال إفريقيا».
كان الطلب غريبا على الموجودين جميعًا، فسألني مندهشا: «ليه يا أستاذ إيهاب أنت حتشرح للعيال جغرافيا بدل العربي؟!».
- «يا أستاذ محمد، الحصة الجاية قصة عقبة بن نافع، وهي تدور كلها في شمال إفريقيا، وأريد أن يعايش التلاميذ القصة».
- «فكرة والله يا أستاذ إيهاب، لكن لو عندنا خرايط أصلا، سأبحث لك في المخزن، يمكن ألاقي حاجة تنفع».
قلت لعبده الإمام وأنا أتركهم: «ما تنساش تضم الخرايط الضايعة للشكوى».
غادرتهم ودخلت فصل أولى سادس، وفي ذلك اليوم لاحظت أن التلميذ (جمال) انتقل إلى جوار الحائط في التختة الأخيرة عن يمين الفصل!!
في الأسبوعين الأولَيْن من الدراسة كان جمال في التختة الأولى، وكان أذكى تلميذ في الفصل، لدرجة أنه كان أحيانا يبادر بالإجابة قبل أن أُتِمَّ السؤال، وأحيانا كنت أطلب منه قبل أن أسأل ألا يجيب هو، حتى يمنحني الفرصة للوقوف على مستوى زملائه.
في الأسبوعين التاليين انحدر مستوى جمال فصار متوسطا ككثير من التلاميذ، وقام من نفسه، فتبادل المكان مع تلميذ في الصف الأوسط من التخت.
بعد شهر ونصف من الدراسة، انحدر مستوى جمال إلى أقل تلميذ في الفصل، وتبادل من نفسه مع زميل له التختة الأخيرة.
اليوم بعد مرور شهرين من الدراسة التصق جمال بالحائط في آخر الفصل، في أقصى ركن منه، ولم يعد ذا مستوى، ليس ضعيفًا لكنه خارج الخدمة تماما... الولد ضاع مني!!
قلت له بعد الحصة بعيدا عن زملائه:
- يا جمال؟
- نعم يا أستاذ.
- بلغ ولي أمرك إني عايز أشوفه ضروري.
- ليه يا أستاذ.. أنا عملت حاجة؟
- لا يا حبيبي.. أنا عايزة في حاجة لا تخصك.
..........
يتبع...
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: