خزانة الأديب :
الدكتور عزمي عبد البديع
يقول الله ـ عز وجل ـ : قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَىٰ مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖفاقض ما أنت قاضٍ إنما تقضِي هَذهِ الحياةَ الدنيا. سورة طه72.
تفسير الآية
قوله (لن نؤثركَ على ما جاءَنا من البينات والذي فطرَنا) هي جملة مقول القول مصدرة بالنفي التأبيديّ الذي ينفي الحال والاستقبال معا.وضمّنت الجملة معنى القسم بالله تعالى والصياغة الكريمة مشعرة بالتغيير المذهل الذي يوحي بالتحول التام في حركة المشهد.
والبيّناتُ هى الدلائل الصريحة من الآيات والمعجزات التي تدفع الظن وترفع الشبهة تلك هي البينات التي قد لاحت بسببها الأنوار وأشرقت في قلوب السحرة شموس الهداية والعرفان بعد أن أبصروا بأعينهم الأمرَ المعْجز المدهش.
وقد كان من نبأ هؤلاء القوم وفي حلقة من حلقات الصراع الطويل بين نبي الله موسى عليه السلام وفرعون الطاغية أنْ جمعَ فرعونُ السحرةَ من كل مكان حتى يظهر أمره على القوم المستضعفين ويحتاطَ لنفسه بالسلطان الجائر والحُكم الظالم.
عند أول الأمر ألقَى السحَرةُ حِبالَهم وعصيّهم حتى تراءت في عيون النظارة كأنها الحيات واسترهبوا الناس وجاؤوا بسحر عظيم ولما ألقى موسى عصاه فإذا هي أعظم ما تكون من الحيات تبتلعُ كلّ شيء بأمر ربها ثم تناولها نبي الله موسى عليه السلام بيديه فعادت سيرتَها الأُولى عصًا حقيقيّة يتوكأٌ عليها كما كان حالها من قبل.
انقلاب السحر على الساحر
انقلب السّحرُ على الساحِر في يوم العيد يوم الزينة وعلى أعين الناس أُلقِى السحرة ساجدين مؤمنين بربّ العالمين رب موسى وهارون غيرَ مكترثين بتهديد الطاغية لهم يتوعدهم (لأقطّعنّ أيديَكم وأرجلَكم من خِلاف ولأصلبنّكم في جُذوع النخل ولتعلمُنّ أيُّنا أشدّ عذابا وأبقى).
النظْم الكريم يشير إلى عنفوان الكراهية وشِدة الغيظ وركوب الشطط والمبالغة في الحكم مع غياب العقل والحكمة والوعي والمنطق والعدول إلى سلاح البطش والفتْك والتهديد والوعيد والتنكيل شأن الطغاة في كل زمان ومكان حين يفشلون في المحاورة والجدل وإقامة الحجة على خصومهم.
جاءت حكاية كلام فرعون بأسلوب مؤكّد بصور عدة من التوكيدات اللغوية بالإضافة إلى بلاغة المبالغة في التجوّز بالاستعارة التبعية في الحرْف (لأصلبنّكم في جذوع النخْل) إشارة إلى قوة الغضب والهزيمة النفسيّة التي استبدّت بعقل فرعون والصّلْبُ في العادة يكون على ظاهر الغرَض دون باطنه.
رسوخ الإيمان واليقين في مواجهة الطغيان
(لن نؤثركَ على ما جاءنا من البينات والذي فطرَنا) ذلكم هو لسان الحق في مواجهة الباطل ورسوخ الإيمان واليقين في مواجهة الصلف والطغيان وكسْر شوكةِ الجبّارين بإعلاء كلمة الله ودينه ولو كان الثمن هو حياة الإنسان.
معنى عميق ومفهوم كبيرٌ لا يدركه إلا الدعاة المخلصون من ورثة الأنبياء لا هؤلاء الذين يبيعون دينَهم بعرَض عارض من متاع الدنيا ويبذلون أنفسهم قرابين للذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون يفتنون بصنيعهم الناس عن دينهم وعقيدتهم.
المعجزة الإلهية هنا حين يأتي النصر والفرَج والتمكين من بين ثنايا الشرّ ذاته ومن الجهة التى يخشى منها المؤمنون أنفسهم وقد جاء السّحرةُ أول النهار يلتمسون أطماع الدنيا ومغانمها والفوز بنصرة فرعون فما أتى عليهم المساء إلا وهم مؤمنون.
(فاقض ما أنت قاض) عبارة تفيض بامتلاء القلب بالإيمان والحكمة وتنطقُ بلسان العزّة والمنعة (إنّما تقضِى هذه الحياة الدنيا) فهو قضاء مهما بلغ مداه دنيء عاجل لا يتعدّى (هذه الحياة الدنيا) بالإشارة إليها إشارة التحقير والتقليل ووصفها بـ(الدنيا) لدنوّها ووشك فواتها فكيف لعاقل أن يؤثر الفانِي على الباقِي والزائل العارض على النعيم المقيم!
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: