الشاعر إيهاب عبد السلام : مجيد طوبيا... أديب الأجيال (خزانة الأديب)

شارك :

 خزانة الأديب : 


مولد مجيد طوبيا

وُلد (مجيد طوبيا) في 25 مارس عام 1938، بمحافظة المنيا؛ فهو تاريخيًّا ينتمي إلى الجيل الوسط، أما فنيًّا فهو ينتمي إلى جميع الأجيال، لا تستطيع أن تجرد فنه من صفة مهما كانت حداثية، ولا من رصانة مهما كانت أصولية، كتب مجيد طوبيا الرواية والقصص القصيرة والأدب الساخر كما كتب للأطفال؛ فهو بذلك أديب مطبوع، متنوع الإنتاج، يمتلك جميع الأدوات، وما إن تبدأ في قراءة عمل له حتى يتملكك حُب هذا الكاتب وتحس بحميمية آسرة تربطك به؛ وذلك لبساطة لغته وحرصه على أن يحدثك مباشرةً كأنه صديق حميم، مصورًا لك ما حدث وما يحدث وما يجول بخاطره تجاه ذلك الحدث، حتى إنك لتكاد تنسى أنك بصدد قراءة عمل أدبي، وإنما تجالس صديقا مقرَّبًا، وتدخل بكينونتك كاملة إلى عالمه الأدبي لتكون أحد أبطاله، أو على الأقل مرافقًا لهم.


مجيد طوبيا ومحاولاته في كتابة الرواية

ولمجيد طوبيا محاولاته التجريبية في كتابة الرواية أخرجها عن كل الأنماط السابقة عليه باقتدار كبير؛ فهو يختط فنه بنفسه، ويتلاعب بقارئه كيفما يشاء، فلا يستطيع أن يفلت منه أبدًا، ويظل عمله شديد الوضوح، مليئًا بالأسرار في آنٍ واحد، يساعده على ذلك لغة غاية في السهولة والاتساق والانسياب، مع وضوح العبارة وبساطة التركيب وقِصر العبارات.
ومما يميز مجيد طوبيا أنه صاحب رسالة قوية وواضحة؛ فهو يعي جيدًا ماذا يريد أن يقول، فلا يحتاج إلى عنت أو تكلُّف في (كيف يقول)، وتظل فكرته القوية ورسالته النبيلة ينمان عن كاتب قدير، مع خفة الدم التي تكاد تلازمه وتكاد تسري في الحروف قبل الكلمات والجُمل؛ حتى إنه يسمي أحد أعماله التاريخية الذي سرد فيه تاريخ مصر الحديث من الحملة الفرنسية إلى عهد مبارك (غرائب الملوك ودسائس البنوك: حكايات حول قناة السويس تتناول السلاطين المساطيل وهجوم الأساطيل وبعض الأعاجيب لأصحاب الجلاليب) وقد سرد ذلك التاريخ الطويل بأسلوب يناسب جميع الأعمار بلغة غاية في الإمتاع.

رواية (لهؤلاء)

ونقترب أكثر من أحد أعماله، وهو رواية (الهؤلاء). يقول في مستهل روايته:

«بدأ كل ذلك عندما كنت أقرأ كتابًا بلغة ديار (أيبوط) المجيدة، التي كان من نصيبي أن أكون أحد رعاياها .. ولو لم أكن أقرأ لما حدث شيء على الإطلاق .. قرأت أن دوران الأرض حول نفسها يحدث في اتجاه مضاد لدوران عقارب الساعة!! .. دُهشت جدًّا وقلت: لماذا تدور الأرض ضد الساعة وليس معها؟! ..

وظل هذا السؤال يشغلني فترة طويلة؛ إذ خطر لي أن هذا التضاد فأل سيئ سوف ينتهي حتمًا بنهاية مريبة .. وأخذت أسائل نفسي عن المسئول عن هذا الوضع الخطير».


بهذه البساطة والذكاء يدلف الكاتب الكبير إلى عمق الموضوع من أول كلمة؛ إذ يُلمِح بذكاء إلى مدينة تعيش عكس الحياة؛ فالعالم يدور في اتجاه وهي تدور في اتجاه معاكس؛ العالم يتقدم إلى الأمام وهي تتراجع إلى الخلف، وهو يصور في روايته (الهؤلاء) مأساة المثقف والمفكر في الدولة العسكرية الشمولية القمعية، التي تعتبر مجرد التفكير تهمة يُقْتاد صاحبها إلى السجن ويدار به (كعب داير) للاشتباه، مستعينةً بجيش كبير من المخبرين؛ حتى ليخيل إليك أن نصف الشعب يتجسس على النصف الآخر؛ تلك القضية التي تعانيها الإنسانية معاناة سرمدية منذ أن شرب سقراط السم وحتى الآن، ورغم أن مجيد طوبيا يعرض قضية قديمة متجددة فإنه يسرد لك الواقع بأسلوب يُشعرك بأنه يصور عالمًا أسطوريًّا، مستخدمًا الرمز الذي سرعان ما يقوم بفكه وشرح دلالته؛ فهو لا يبخل على قارئه بأي شيء يعلمه حتى أسرار فنه، موقنًا بأن قوة فنه إنما تكمن في عظيم رسالته وليس فيما يستخدمه من أساليب فنية؛ لأن كل ذلك يأتي بمثابة العامل المساعد وليس الهدف والغاية المنشودة، ومن هنا تأتي قيمة هذا الفنان القدير.

ومثال ذلك حواره مع أحد شخصيات الرواية الذي جاء فيه:
"- أدهشتني فكرتك عن دوران الساعات البشرية ضد اتجاه دوران الأرض .. فهل تقصد البشر في أيبوط فقط أم البشر في جميع أنحاء العالم؟
لم أرد .. قال:
- وهل هذه حقيقة واقعة فعلاً أم إنك تقصد من وراء ذلك رمزًا؟
إنه يستدرجني .. لن أتكلم .. قال:
- أنا لا أستدرجك إلى أي شيء، تبدو ناصحًا .. ولكنني شغوف لمعرفة إن كنت تقصد بعض الرموز في كلامك هذا؟
- وما هي هذه الرموز؟!
- مسألة أن ديار أيبوط السعيدة تسير ضد الزمن وليس معه!!".
هكذا يفك رموزه ببساطة ودون تكلف؛ ولذلك تلمح في هذه الرواية أنها تكاد تناسب جميع الأعمار والثقافات؛ يقرؤها الناقد والأديب والإنسان غير المتخصص، فينال الجميع القدر نفسه من الاستمتاع والفائدة، وهذه الميزة لم تتحقق فيما قرأت لأديب تحقُّقها لمجيد طوبيا.


سمات أدب مجيد طوبيا



ومن سمات الوضوح والبساطة في أدبه أنه يُقَسِّم روايته إلى موضوعات، كل موضوع بضع صفحات قليلة، يضع له عُنْوَانًا يزيده جلاءً، ويهيئ لقراءة محتواه، ويربط أحداث الرواية في تسلسل منطقي، وكل هذا في إطار التجريب الذي يكتنف الحكي واللغة وأسلوب توصيله لأفكاره العميقة ببساطة متناهية.
ويستخدم الكاتب أسلوب المسرح التجريبي الذي يهدم الحائط الرابع في بعض تجاربه، ليتواصل الممثلون في حكي مباشر والتحام صريح بالمشاهدين دون أن يجهدوا أنفسهم بإقناعهم أنهم لا يمثلون؛ فنجد الكاتب فجأة بعد أن استرسل في حكاية فرعية داخل الرواية يقول:
"تنبيه قبل أن أعود إلى الحكاية الأصلية:
ليكن معلومًا أن كلاًّ من صاحب القلم المشهور والأديب النصف معروف هما شخصيتان من اختراعي، ولا علاقة لهما بالواقع المعاش في ديارنا، الإيبوطية المظفرة.. كذلك الحال مع جميع الشخصيات التي قد يأتي ذكرها فيما بعد.
وقد تعمدت ذكر هذه الحقيقة حتى لا يجهد أحَدٌ ذهنه في محاولة تخمين لا جدوى منها.. فهذه الرواية لم تقع هنا، لم تحدث الآن.. وإنما حدثت أحداثها إبان زمن غير مؤكد وفي بقاع غير معروفة.. لذا لزم التنويه..
كذلك شخصية الراوي - الذي هو أنا - تَخَيُّلية غير موجودة".
هكذا يُذكِّر قُراءه داخل الرواية بأنه يكتب رواية من خياله ويطل بنفسه (مجيد طوبيا) بكل بساطة، كاسرًا كل ما هو مألوف متمردًا على التأطير.


ويستفيد من فن السيناريو في تصوير المشاهد واستنطاق الشخصيات ليجعل قارئه يقرأ وكأنه يشاهد، فيبتكر لغة قصصية في مواضع كثيرة تبدو جديدة؛ ومن ذلك قوله على لسان ضابط الشرطة وهو يوضح للمعتقل - الراوي - سبب اعتقاله "وجميع هذه المعلومات - لا تقاطعني من فضلك - وجميع هذه المعلومات تفيد بأن سلوكك خرج عن حدود المألوف" فالجملة الاعتراضية تصور ما هَمَّ به الراوي من الكلام تصويرًا رائعًا أغنى عن الوصف والحكي وكأنه يقدم مشهدًا سينمائيًّا.

مجيد طوبيا وتنوع مصادر ثقافته

ويتميز أسلوب مجيد طوبيا بأنه يستقي من ثقافات متعددة؛ فيحاكي الكتاب المقدس الذي جاء فيه (في البدء كانت الكلمة)؛ فيقول واصفًا ترتيب استشراء الفساد في الأنظمة الشمولية وهو يقرأ على ضوء شعاع خافت نقشًا محفورًا على جدار الزنزانة القبرية تامة العتمة: "انظر .. في البدء كذب الدياجم .. ثم المُلاك والتجار .. ثم الساسة والمثقفون .. انظر: ففسدت الرعية وعم الفساد بأرجاء البلاد". ويربط بثقافته الأصيلة الواقع المرير بالماضي الأكثر مرارة؛ فيشير إلى تعمُّد رمسيس الثاني نحت التماثيل العملاقة رغم نحافة وضآلة جسمه الحقيقي، وكذلك تزييف تاريخه ليجعل نفسه منتصرًا رغم هزائمه المخزية.


ثم يردد مقولة منسوبة للصحابي الجليل أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - دون أن يشير إليه؛ حيث يقول: "وظللنا نطوف ونطوف حتى وصلنا إلى مدن صغيرة لم أسمع عن أسمائها، وأحياء ممعنة في الفقر لم أكن أتصور وجودها في أيبوط السعيدة؛ مما جعلني أتعجب من سكانها: كيف لا يخرجون شاهرين سيوفهم وهم باتوا لا يجدون قوت أولادهم" وهكذا في سياق واحد متصل في بضع صفحات تبرز في روايته ثقافة ثلاث حضارات، شكلت وجه مصر وتشكل منها مجيد طوبيا ذاته: الحضارة الفرعونية، والحضارة القبطية، والحضارة الإسلامية.


ولمجيد طوبيا قدرة كبيرة على تطويع اللغة وتكثيفها للتعبير عن أية فكرة مهما كان اتساعها؛ فهو في جملة واحدة يختصر معاناته واغترابه في بلده مكثفًا الشعور بالحنق واللوم والغضب معًا.. كل ذلك في جملة واحدة "تلك الدولة المطلة على البحرين الأبيض والأحمر والمرتوية من نهر النيل والمسماة مصر".



مجيد طوبيا وطريقة الأوراق المتناثرة المنتزعة

وقد استخدم مجيد طوبيا - ولعله أول من فعل ذلك - طريقة الأوراق المتناثرة المنتزعة من أصلٍ بلا ترتيب كيفما اتفق، لتتداخل مع الصورة وتلتحم بنسيج الرواية؛ فجعل بطل قصته يقرأ الورقة الملفوف فيها الطعام فإذا بها من تاريخ مصر الفرعونية وإذا بها تتسق تمامًا مع سياق القصة، وقد استخدم د. يوسف زيدان هذا الأسلوب في (ظل الأفعى) وكذلك في (عزازيل) وقد سبقه في ذلك مجيد طوبيا في روايته (الهؤلاء). نعم إنه يستحق عن جدارة ما عنونت به هذه المقالة من وصفه بأنه أديب الأجيال. *بقلم الشاعر الدكتور إيهاب عبد السلام يمكنكم متابعة مقالاته ومشاركاته هنا



شارك :

الشاعر إيهاب عبد السلام

شخصيات أدبية

مقالات أدبية

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: