الحلقة الأولى
المقدمة
شخصية السورة
المقدمة
شخصية السورة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأبى إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون والصلاة والسلام على رسول الله، سيد الأولين والآخرين ورحمة الله للعالمين، الذي أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ثم أما بعد فإن المتأمل لكتاب الله الكريم يلاحظ تميز السورة الواحدة في القرآن عن غيرها من السور لا أقول فقط في جرسها أو مفرداتها بل في روحها وجوها وقل إن جاز التعبير فإن لكل سورة في القرآن وحدة موضوعية أو (شخصية مستقلة) تضافرت في تشكيلها عوامل عديدة منها اختيار الألفاظ ومنها وحدة الهدف والموضوع ومنها جرس النهايات والفواصل وإيقاعها، وأهمها روح يسري في كل سورة قد لا تملك وصفه ولكنك ببعض تأمل تحسه وتشعر به.
إذا يسر الله تعالى لك أن تستمع إلى القرآن - وأرجوك أن تجرب ذلك إن لم تكن جربته - منصتا بنفس صافية في وقت هادئ من قارئ حسن الصوت محضرا قلبك وروحك فما أشك أنك ستحس وكأنك تستمع للآيات لأول مرة ـ رغم أنك استمعت قبل ذلك لنفس الآيات كثيرا ـ فما هذا الكلام العجيب الذي كلما استمعت إليه أو تلوته تكشفت لك منه معان جديدة ولاح لك منه نور مبين !!
أحضر قلبك ورتل أو أنصت في خشوع إلى سورة من القرآن كسورة (محمد) أو سورة (النجم) أو سورة (القمر) أو سورة (مريم) أو سورة (طه) أو سورة (يوسف) أو سورة (الطور) أو سورة (ق) أو ... أقول لا يمكن أن تتغافل عن انبهارك بسياق السورة الواحدة من هذه السور، كيف لا وقد قال أعدى أعداء هذا الدين عن القرآن (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه) وما أصدق قول القائل:(لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد)
أحضر قلبك ورتل أو أنصت في خشوع إلى سورة من القرآن كسورة (محمد) أو سورة (النجم) أو سورة (القمر) أو سورة (مريم) أو سورة (طه) أو سورة (يوسف) أو سورة (الطور) أو سورة (ق) أو ... أقول لا يمكن أن تتغافل عن انبهارك بسياق السورة الواحدة من هذه السور، كيف لا وقد قال أعدى أعداء هذا الدين عن القرآن (إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه ليعلو ولا يعلى عليه) وما أصدق قول القائل:(لا تنقضي عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد)
نركز هنا على أربعة أوجه نرى أهميتها في إيضاح ظاهرة الثراء الأسلوبي في سور القرآن المختلفة :
أولاً : قضية العقيدة :ولا شك أنها من أهم ما يعرضه القرآن من موضوعات: كتوحيد الله تعالى وإفراده سبحانه بالعبودية والاتباع وغير ذلك من قضايا متعلقة به مثل الإيمان بالملائكة والرسل والكتب وحقيقة الوحي والرسالة والبعث واليوم الآخر والحساب والجزاء ... فهذه قضايا محورية أساسية تتكرر كثيراً في عموم سور القرآن - وخاصةً المكية منها - ولكنه في كل سورة يعرضها في ثوب جديد ويتناولها بشكل مختلف - كما سنرى - يتوافق ويعطي لكل سورة روحها الخاص وشخصيتها المستقلة.
ثانياً: المقارنة:
يعرض القرآن في كثير من السور مقارنات ومقابلات: مثلاً بين فريقين: فريق الحق والإيمان والهدى والعلم وعظيم جزائهم بأصناف النعيم في الجنة في مقابل فريق الباطل والكفر والضلال والجهل وسوء عاقبتهم بألوان العذاب في النار، ونجد مقارنات كثيرة بين النور والظلمات وبين الأعمى والبصير وبين الحي والميت ..و .. و.. فبضدها تتميز الأشياء، ولكن هذا العرض يتم بأساليب متنوعة فتارة بصيغة دعاء (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) الفاتحة 6و 7 وتارة بصيغة نفي: (وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمعٍ من في القبور) فاطر 19-22 ومرة بصيغة استفهام (أفنجعل المسلمين كالمجرمين مالكم كيف تحكمون) القلم 35 و36 ومرة بتقرير حاسم (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون) الحشر 20 وما ضربنا مجرد أمثلة نورد غيرها كثيراً في عرضنا لتفاصيل السور ولكن في كل سورة سنجد هذه المقارنة في ثوب جديد مختلف فمرة في إيقاع سريع حاسم ومرة في إيقاع متمهل متأن ومرة يفصّل ومرة يجمل ومرة في شكل محاورة وجدال ومرة في شكل تقرير ووصف ... ومرة .. ومرة .. وهكذا ولكنه في كل مرة يتوافق مع روح السورة وجوها الخاص بها فإذا هو في كل مرة سياق جديد أخاذ.
ثالثا : القصص :
يعرض القرآن في كثير من السور قصصاً لأغراض عديدة منها تثبيت القلوب ومنها الاعتبار والموعظة وغير ذلك: (.. فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف 176 وقد يتكرر القصص في أكثر من سورة بشكل لافت وبألفاظ متقاربة كما في قصة موسى عليه السلام وقد يأتي في سورة واحدة بعرض تفصيلي لقصة واحدة كما في سورة يوسف (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) يوسف 3 ولكن القصص في كل سورة يعرض بطريقة مختلفة فمرة يختصر ومرة يطيل ومرة يجمل ومرة يفصل ومرة يعرض لقطة معينة ومرة يعرض لقطة أخرى ... ومرة .. ومرة .. ولكن العرض في كل مرة يتوافق ويتكامل مع روح السورة وجوها ومحاورها الرئيسة فإذا به في كل مرة قصص جديد مبهر.
رابعا و أخيرا : ضرب الأمثال:
يضرب الله كثيرا من الأمثال في القرآن ليقرب لأذهاننا قضايا كثيرة لا تتضح إلا بالأمثلة حتى يكاد يكون ضرب الأمثال سمة عامة في كثير من سور القرآن (ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم) النور (35) فتارة يخاطب العقل وتارة يخاطب العاطفة وتارة يعرض صوراً من الكون وتارة يعرض صوراً من النفس لكنه في كل سورة يعرض الأمثال في إطار مختلف يتوافق مع جو السورة الخاص ومحاورها الرئيسية فإذا نحن في كل مرة أمام مثل جديد نابض بالحياة. وما ضربنا من أمثلة - وغيرها كثير - هو في حقيقته باب من أبواب الإعجاز الواضح في لغة القرآن فلا يستطيع أحد - مهما أوتي من فصاحة وبلاغة - أن يعبر عما يريد من معانٍ بكل هذا الثراء الأسلوبي المتنوع والمقصود والهادف فيأتي جديداً رائعاً في كل مرة! فلا تجد - ولو اجتهدت - حرفا واحدا في غير مكانه ولا تلقى – ولو دقَّقت - كلمةً واحدةً في غير موضعها ، فالبشر حين يتكلمون أو يكتبون يستعملون ألفاظاً وأساليب مخزونة في الذاكرة مشتقة من بيئاتهم وثقافاتهم وإذا صحبت أحدهم أو داومت على القراءة له مدة من الزمن فإنك دون كثير عناء ستتعرف على أسلوبه ومفرداته وطريقته في الكلام أو الكتابة بل وستصل بطول الألفة لعبارات يكررها بنصها كثيراً مما يسمى ب(اللازمة) لأن البشر لا يستطيعون أن يغيروا طريقتهم في الكلام أو الكتابة وحتى إذا تعمدوا ذلك فالأمر بالغ الصعوبة وسيبدو الكلام بالطريقة الجديدة مفتَعلاً بالغ التكلف لا روح فيه كأنه جاء من بيئةٍ أخرى وثقافةٍ مغايرة!!.
يقول الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله في (في ظلال القرآن) في مقدمة خواطره حول سورة البقرة في الجزء الأول ص 27:
يقول الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله في (في ظلال القرآن) في مقدمة خواطره حول سورة البقرة في الجزء الأول ص 27:
(ومن ثم يلحظ من يعيش في ظلال القرآن أن لكل سورة من سوره شخصية مميزة! شخصية لها روح يعيش معها القلب كما لو كان يعيش مع روح حي مميز الملامح والسمات والأنفاس ! ولها موضوع رئيسي أو عدة موضوعات رئيسية مشدودة إلى محور خاص ولها جو خاص يظلل موضوعاتها كلها ويجعل سياقها يتناول هذه الموضوعات من جوانب معينة تحقق التناسق بينها وفق هذا الجو ولها إيقاع موسيقي خاص إذا تغير في ثنايا السياق فإنما يتغير لمناسبة موضوعية خاصة وهذا طابع عام في سور القرآن جميعاً ولا يشذ عن هذه القاعدة طوال السور كهذه السورة)ويقول في مقدمة ظلال سورة الأنعام :
(وهي تمثل طبيعة هذا القرآن وخصائصه ومنهجه في موضوعها الأساسي وفي منهج التناول وفي طريقة العرض سواءً، ذلك مع احتفاظها (بشخصيتها) الخاصة وفق الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن والتي لا تخطئها الملاحظة البصيرة في أية سورة، فلكل سورة شخصيتها وملامحها ومحورها وطريقة عرضها لموضوعها الرئيسي والمؤثرات الموحية المصاحبة للعرض والصور والظلال والجو الذي يظلها والعبارات الخاصة التي تتكرر فيها وتكون أشبه باللوازم المطردة فيها) وأضيف لما قال (ومفرداتها الخاصة بها)!
ويقول في الجزء الخامس ص3076 في خواطره حول سورة غافر:
(... وهكذا وهكذا مما يوحي بأن منطق الإيمان ومنطق المؤمنين واحد لأنه يستمد من الحق الواحد ومما ينسق جو السورة ويجعل لها ((شخصية)) موحدة الملامح. وهي الظاهرة الملحوظة في كل سور القرآن).
ويقول العلامة الشاطبي - عارضا ما اصطُلح على تسميته حديثا بالوحدة الموضوعية للسورة - في (الموافقات):(إن السورة الواحدة مهما تعددت قضاياها تكون قضية واحدة أي تهدف إلى غرض واحد أو تسعى لإتمامه وإن اشتملت على العديد من المعاني).
وفي إعجاز اللفظة الواحدة في موقعها يقول القاضي ابن عطية في تفسيره - الجزء الأول ص 101 :
إن كتاب الله لو نزعت منه لفظة ثم أدير لسان العرب على لفظةٍ أحسن منها لم يوجد.
وتقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ رحمها الله في مقدمة الجزء الثاني من كتابها (التفسير البياني للقرآن الكريم) :
والقول بدلالة خاصة للكلمة القرآنية لا يعني تخطئة سائر الدلالات المعجمية، كما أن إيثار القرآن لصيغة بعينها لا يعني تخطئة سواها من الصيغ في فصحى العربية، بل يعني أن لهذا القرآن معجمه الخاص وبيانه المعجز.
ويقول الأستاذ الدكتور توفيق علوان في كتابه (فيض الرحمن في التفسير الموضوعي للقرآن) يصف تلك الروعة الآخذة بمجامع القلوب والتي أبهرت العلماء قديما وحديثا في السورة الواحدة ص 406 :
وموضوع هذا الكتاب يبحث بالأدلة الواضحة إثبات أن لكل سورة في القرآن جوها الخاص وأسلوبها المستقل وتعبيراتها وألفاظها وتركيباتها اللغوية الخاصة بها وحدها والتي تميزها عن باقي سور القرآن . بل لا أبالغ إذا قلت إن كل سورة من سور القرآن لها لغتها الخاصة وكأنها مشتقة من لغة مستقلة لها مفردات وأساليب مختلفة في كل سورة !!!
(نعم لم يكن أحد يحيط بهذه الميزة المعجزة من كتاب الله تعالى عدا القلة النادرة منهم وإنها سارية في جنبات كل سورة جامعة أطرافها كالنسيج البديع الموشى في جلال وجمال لا تختل منه شاردة ولا تضطرب فيه زينة ولا لون؛ إنه انتظام المعنى في جميع سور القرآن الكريم، ثم في كل سورة على حدتها، ولكل سورة عبقها وأريجها الآسر وشخصيتها البارزة المميزة، بل نقول إنه هو السر في إعجاز هذا الكتاب العظيم، فإنك كلما تصفحت سورة من سور الكتاب قصرت أو طالت وجدت لها مسحة تميزها عن سواها، وإن هذه الصفة الغالبة البارزة والتي تسري منها مسرى الدماء في العروق أو الماء في العود الأخضر إنما تبرز بغاية العظمة والجلال والجمال المقصود من الموضوع الذي تتناوله السورة)
وموضوع هذا الكتاب يبحث بالأدلة الواضحة إثبات أن لكل سورة في القرآن جوها الخاص وأسلوبها المستقل وتعبيراتها وألفاظها وتركيباتها اللغوية الخاصة بها وحدها والتي تميزها عن باقي سور القرآن . بل لا أبالغ إذا قلت إن كل سورة من سور القرآن لها لغتها الخاصة وكأنها مشتقة من لغة مستقلة لها مفردات وأساليب مختلفة في كل سورة !!!
يتبع إن شاء الله ،،،،،
حلقة رائعة جدا
ردحذفوجزاكم الله خير الجزاء
وننتظر المزيد ان شاء الله