الدكتور حسام الشحات : نظرات في لغة لقرآن (الحلقة الثانية) المقدمة (2)

شارك :

تحدى ربنا سبحانه وتعالى العالمين أن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال جل وعلا : 
(فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين) الطور(34)
وقال :
(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيرا) الإسراء(88)
 وتبين عجزهم عن ذلك ، وتحداهم أن يأتوا بعشر سورٍ مثله فقال: 
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سورٍ مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود(13)
وتبين عجزهم عن ذلك ، وتحداهم أن يأتوا بسورة واحدة مثل هذا القرآن فقال:
(أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) يونس38،

وقال كذلك بالغا غاية التحدي والإفحام :
(وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين .. فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين) البقرة 23 و24
يتحدى بسورة واحدة ولو كانت أقصر سورة - سورة الكوثر !! وما زال القرآن يتحدى بإعجازه كل العالمين من إنس وجن ومن عرب وعجم وما زال وسيظل إلى يوم الدين رافعا رايته وحده واثقا مطمئنا على صراطه المستقيم ـ أقول : (وحده) بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ وبغض النظر عن حال الأمة التي نزل بلسانها وعن موقعها من سبق أو تأخر في ركب الحضارة !! ـ  ينادي ويكرر ويستفز كل الدنيا صباح مساء (ولن تفعلوا) فماذا فعلوا ؟!! ما فعلوا شيئا .. ولن يفعلوا .

وبحثنا هذا يبحث ظاهرة قرآنية فريدة في إعجازه البياني وهي تميز كل سورة من سور القرآن بجو خاص منفرد لا يشاركها فيه غيرها فتتميز بألفاظ وتركيبات لم ترد في غيرها! ونقصد بكلمة: لفظة: الكلمة الواحدة بنصها والتي ترد في سورة واحدة (وخاصةً إذا تكررت في نفس السورة عدة مرات أو لم تأت كل مشتقاتها إلا في هذه السورة فقط ـ وحيدة في بابها أو مادتها ! )

فمثلاً كلمة (الأبتر) وردت في سورة الكوثر لكنها لم ترد ولم يرد أي مشتق من أصلها أو جذرها الثلاثي (ب ت ر) في القرآن كله. ونقصد بالتركيبة: لفظان متتاليان فصاعدا ـ وقد تأتي تلك التركيبة في سورة واحدة ـ متكررة في أكثر من موضع أو مميزة فلا تشبه غيرها فتميز السورة الواحدة عن غيرها من السور فمثلاً (فبأي آلاء ربكما تكذبان) التي تكررت في سورة الرحمن إحدى وثلاثين مرة ولكنها لم ترد في سورة أخرى فتميزت بها سورة الرحمن وأضفت عليها شخصيتها المستقلة وطابعها الخاص.

ومعنى كلمة (سورة) في كلام العرب كما ذكر القرطبي في تفسيره :

(الإبانة لها من سورة أخرى وانفصالها عنها وسميت بذلك لأنه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة)
وقيل سميت بذلك لشرفها وارتفاعها كما يقال لما ارتفع من الأرض سور، وقيل: سميت بذلك لتمامها وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة، وقيل لأنها تحيط بموضوعها كإحاطة السور بالأرض أو كإحاطة السوار بالمعصم وقيل بل اشتُقَّت من (سؤر) بالهمز بمعنى: بقية، وقيل غير ذلك والله أعلم ولكن نلاحظ أن أغلب المعاني متقاربة: تدور حول الانفصال عن غيرها والإحاطة بموضوعها وشرف المنزلة وارتفاعها وسوف نرى أن كل سورة من سور القرآن طالت أو قصرت تقدمت أو تأخرت تتميز من حيث البناء اللفظي والأسلوبي عن غيرها، فتنفرد بلفظ أو ألفاظ تميزها وحدها وتعطيها طابعها الخاص وأن أغلب سور القرآن تتميز بتركيبات وأساليب بيانية تميز كل سورة!. وظاهرة أخرى في بعض سور القرآن ـ خاصةً طوال السور ـ وهي وجود آيات بعينها ذات وقع خاص أو ما اصطلح البعض على تسميتها (آيات محورية) وسوف يجد القارئ الكريم بعضاً منها في ثنايا الكتاب ورغم أن بعض إخواني ممن اطلع على موضوع البحث وتفاصيله نبهني إلى أن من الأفضل عدم الخوض في هذا الأمر لأن الآيات (المحورية) ربما اتفق البعض أو اختلف حولها وما ستقوله ربما يكون رأيا شخصيا لك أو أنه قد يحمل شبهة من تفضيل بعض آي الكتاب الكريم عن غيرها، ولكني بعد تفكير عقدت العزم على تضمينها في البحث مع تسليمي بأن بعضها قد يكون بالفعل تأثراً شخصياً مني ببعض الآيات في بعض المواقف ولكن لم أستطع التغافل عن تلك الظاهرة، ومالي لا أفعل ورسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه قد أرشدنا إلى مزايا خاصة لبعض الآيات مثل آية الكرسي (ثبت بالحديث الصحيح عن أُبيّ بن كعب أنها أعظم آية في كتاب الله) وأواخر سورة البقرة، وآيات آل عمران (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ..) وأواخر سورة الحشر وغير ذلك من الآيات،

وعد العلماء كثيرا من الآيات وكأنها أصول في مواضيعها قد تختصر آلاف الصفحات !
وكيف يتسنى للمرء أن يغفل عن آية كآية الحجر :
(إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)
وهي ركن ركين في موضوع حفظ الله للكتاب العزيز، أو يتغافل عن جزء من آية الشورى  ( .. ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) وهي أصل الأصول في العقيدة تختصر بالفعل مئات المجلدات !!! وهكذا يراعي الأسلوب القرآني أدق التفاصيل على مستوى الجملة والعبارة وعلى مستوى الكلمة واللفظ بل وعلى مستوى الحرف الواحد فيرسم صورة رائعة شاملة متكاملة يخدمها جو كامل من الألفاظ والتراكيب يعجز عن مثلها أدق الأدباء وأروع الفنانين.

فكما يقول النقاد: إن المخرج المبدع (ولله المثل الأعلى) هو الذي يمتلك أدواته ويهتم بأدق التفاصيل كالألوان والظلال والإضاءة والمؤثرات الصوتية و..و.. غير ذلك مما يتميز به العمل الفني رائع الجمال مكتمل الأركان فلا تجد ذرة من نقص أو اختلال

فسبحان من هذا كلامه :

(فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) الملك 3 و4.


لا نبحث هنا في تميز القرآن فوق كلام آخر ـ فلا يصمد أي كلام ولا أي كتاب في أي مقارنة بأي مقياس في مواجهة القرآن ـ وإنما نبحث في تميز السورة القرآنية الواحدة عن أخواتها من سور القرآن ليس فقط من جانب معنوي نفسي يسيطر على قارئها أو سامعها فيأخذه من كل جوانبه ولكن من جانب إحصائي عملي يرصد الألفاظ والعبارات ويظهر تفرد السورة الواحدة بأسلوب لغوي ومفردات لفظية تصنع جميعاً جواً خاصاً يميز كل سورة ويعطيها طابعها الأسلوبي الفريد ويمنحها شخصيتها المستقلة
شارك :

الدكتور حسام الشحات

قرآنيات

مقالات إسلامية

مقالات في تفسير الآيات

نظرات في لغة لقرآن

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: