أمْرٌ واحدٌ فقط هو الذي كان يقوم به عبده منصور بإخلاص شديد، ولا يتهاون فيه مطلقًا، وينفعل أشد الانفعال على من لا يشاركه فيه، ذلك الأمر هو (تحية العلم) في طابور الصباح، وفي كثير من الأحيان كان يتقدم الصفوف ويؤدِّي التحية بنفسه، بقوام مشدود ثابت كتمثال، وهو يرفع عقيرته من أعماق قلبه بحماس تكاد تنفجر منه عروقه، وقد رفع يده اليمنى بالتحية: (تحيا جمهورية مصر العربية).
يا ويله من يلمحه عبده منصور من المدرسين يتحرك أثناء تحية العلم، وكأن المسكين يظن أنه بتلك التحية قد أدَّى حق الوطن عليه كاملا مكمَّلًا. لَكَمْ كانت تضايقني هذه المفارقة بين الحرص على تحية تلك الراية الرمزية مع أهمية رمزيتها، وبين ما يخرِّبُه ذلك العَبْدُه في تعليم أجيال متتالية لسنوات، مما كان يجعلني أحيانا أرد عليه -من غيظي- حين يقول:
- تحيا جمهورية مصر العربية.
فأقول أنا بأعلى صوتي وبحماس يفوق حماسه:
- يا خاين جمهورية مصر العربية.
وهيهات أن يتبينها أحدٌ عن بُعْدٍ؛ لاختلاط الأصوات، ولا أنسى يوم أن كان زميلي الأستاذ محمد بجواري تمامًا، فسمعها واضحة رنانة؛ فلم يتمالك نفسه وكاد يسقط من الضحك في أرض الطابور، فأخذ يفتعل سُعَالًا مفاجئا يخلط به الضحك وفَرَّ إلى الحمام؛ بينما أكملت أنا التحيتين التاليتين بالصيغة ذاتها.
كنت أشعر أن ذلك الغلَّ الذي يحيي به العلم ما هو إلا مداراة لصوت في أعماق نفسه، باقٍ منذ أن الله -سبحانه وتعالى- سوَّاهَا، فألهمها فجورها وتقواها، يقول له ذلك الصوت: «إنك أكثر إنسان يخون ذلك العلم الذي تحييه» فيبالغ في الحماس ليغلوش على هذا الصوت الخفي، ويثبت لنفسه أنه وفيٌّ لوطنه؛ وهكذا كثير من البشر يهربون إلى الوهم وهم يعرفون الحقيقة.
كنت أظن أن عبده الإمام تورط في تلك الشكوى عندما رفضت أن أوقع عليها، ولكن ما تكشف لي بعد ذلك أنه لم يتورط قط، بل لو رفض جميع الزملاء التوقيع ولم يبق إلا هو لأمضاها ووقع عليها وحده، ومع ذلك لم يعدم الموقعين فكانوا عددًا لا بأس به، فهل أصبح ذلك العبده شريفًا في طرفة عين، نام فقام فوجد نفسه هكذا..؟!!
كان عبده الإمام قد تهيَّأ لإعارة داخلية إلى إحدى المدارس الأجنبية، حيث خلا مكان
مدرس هناك، وقد رتَّبَ أموره عن طريق المعارف، وتلك المدرسة تمنح راتبًا خمسة أضغاف راتب الحكومة، كما أن الدروس هناك مختلفة اختلافا كبيرا، التلميذ بعشرة من تلاميذ مدرسة الزعيم.
كان عبده الإمام قد أجرى المقابلات والاتفاقات ولم يبقَ غير التنفيذ، فأرادَ ألا يترك مدرسة الزعيم إلا بعد أن يسجل بطولة مجانية لا تكلفه شيئا، وكأنَّ السنوات التي أمضاها في جمع الإتاوة من مدرسيه، والفتنة على باقي الأسر، والتملق لعبده منصور... كل هذا سيمحوه ورقة يرفعها للإدارة، ويقابل الله تعالى وقد برئ مما فعل..؟!!
لم يبالِ بأنه سيترك الموقعين من زملائه الذين غرر بهم ليواجهوا عبده منصور وحدهم، بعد أن يكون قد فَرَّ بنفسه... لم أفهم كل ذلك إلا بعد أن قدم الشكوى وغادر المدرسة، بل الإدارة كلها.
يبدو أن لفهم الأمور توقيتات لا يعلمها إلا الله، وقد يتعرض الإنسان لأمر فلا يستوعبه مهما أوتي من ذكاء، ولا يمكن أن يتكشف له إلا في موعد موقوت، ولا عاصم له في اتخاذ القرار تجاهه إلا أن يتمسك بالمبادئ التي لا تتجزأ ولا توقيت لها، حتى لو لم يفهم ما يدور حوله، هذا ما تأكد لي عندما عرفت دافع عبده الإمام لتلك الشكوى.
سرعان ما علم عبده منصور أني لم أوقع عليها، فبمجرد تسليمها للإدارة أرسل له أحبابه صورة منها، بل علم أنه طُلِبَ مني التوقيع ورفضتُ، وقد صرت أتحاشى النظر إليه لئلا يظن أن عدم توقيعي يعني رضائي عن سياسته وأفعاله، وبالغتُ في التجهم في وجهه إذا التقت عينانا مصادفة.
إلا في ذلك اليوم الذي اضطررت فيه إلى مبادلته الابتسام حتى لا أكون قليل الذوق، فقد جاءني باوْلو في حجرة المدرسين يخبرني بأن سيادة المدير يريدني في حجرته ومعه ضيفة.
دخلت إليه فإذا به يقف ليسلم عليَّ وهو يقول لتلك الجالسة في حجرته: «دا الأستاذ إيهاب أكفأ مدرس عندي في المدرسة».
توقفتْ السيدة، فقدمها لي قائلا: «وَلِيّ أمر تلميذ عندك اسمه جمال جاية تقابلك يا أستاذ إيهاب».
.........
يتبع
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: