الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء السابع عشر)

شارك :
من الأدبيات المتعارف عليها في مدرسة الزعيم، أنه إذا التقى وليُّ أمر بأحد الزملاء في حجرة المدرسين، فعلى الجميع أن ينصرفوا ويُخْلُوا الحجرة لهما بكل لياقة، فالمتوقع أن تكون تلك المقابلة للتعارف والاتفاق على درس خصوصي، وهذه مسألة أرزاق ينبغي أن يتعاون الجميع فيها لصالح الجميع، فاليوم أنصرفُ من أجلك، وغدا تنصرف أنت من أجلي.

حتى عبده منصور ذاته، كان يهتم أيما اهتمام بهذا الموضوع، فيُحسن مقابلة أولياء
الأمور، ويُكْرم مدرسيه أمامهم، وإن لم يتيسر إلا مكتبه شخصيًّا لوجود موجه في حجرة المدرسين، لا يتأخر عن ترك المكتب لهما بكل تواضع ولياقة؛ فيخرج ليمر على الفصول قائلا للمدرس وضيفه: المكتب مكتبك يا أستاذ فلان «خد راحتك»، على أساس أن أية مبالغ تدخل لأي مدرس هي خير وبركة، ما دام لا يتعدَّى على حق زميل له فيخطف تلاميذه منه.

كان التعاون في تمكين المدرس من إعطاء دروس لأكبر عدد من تلاميذه من المبادئ فوق الدستورية، التي لا ينصلح الحال ولا تستقر الحياة إلا بإرسائها، والحقيقة أنه لم يكن مدرس يستطيع أن يعيش على راتب الحكومة دون دخل إضافي، بل دون دخل أساسي، ويكون راتب الحكومة هو الإضافي، فلا يستغني عن الدروس إلا من لديه بديل عنها، كالزميل عاصم الذي كان يعمل في صالون حلاقة راقٍ في منطقة بعيدة عن المدرسة، ولا يعرف عمله هذا إلا أنا وزميل آخر. وكذلك الزميل صالح، الذي كان شريكا في محل أحذية بمنطقة العتبة، فيسارع إلى المحل بعد المدرسة واقفا بين الأحذية لتعصمه من الدروس، وتعينه على كونه مدرسًا.

استَضَفْنَا الضَيْفَين اللذين زارانا من قرية (ميت العامل) أسبوعًا في سكني أنا وصديقي، كانا خلاله قد استقرَّا في عمل كباحِثَيْن في إحدى دور النشر الناشئة، واتخذَا سكنًا في عمارة قريبة من سكننا في منطقة أبو قتادة، وتوثقت صداقتنا، فاقترح عليَّ أحدهما أن أذهب معهما للعمل في دار النشر، فلم أتقبل الفكرة في البداية، فقال لي:
- يا إيهاب أنت ستنجح جدًّا في هذا العمل، وأتوقع أن تكون من أفضل الموجودين، لأنك شاعر وموهوب، اسمع كلامي وتعالَ معانا.

- طيب حاخد كام؟
- الحقيقة معرفش، لكن اللي أعرفه إن المدير هناك رجل محترم وطيب جدًّا وما بيظلمش حد، تعالَ بس ومش حتندم.

ذهبت إليهم بعد المدرسة متردِّدًا... وفي الشهر الأول صرت رئيسًا لقسم الوسائل التعليمية والصوتيات والمرئيات، براتب كل أسبوعين 250 جنيهًا يعني 500 جنيه في الشهر، بينما راتب الحكومة 73 جنيهًا. ولعلِّي أعود إلى تفاصيل عملي ذلك الجديد فيما بعد، المهم أن هذا ما ساعدني على التمسك بمبدأ عدم التكالب على الدروس، فكنت أخرج من المدرسة إلى دار النشر لا أحب أن يعطلني عنها شيء، ولكم أحببت عملي فيها، وحرصت على تطويره، ولي معه ذكريات.

شكرت (عبده منصور) واصطحبت أم جمال إلى حجرة المدرسين... ما شاء الله تبارك الخلاق، لم يكن لقب (أم جمال) إلَّا وصفًا حقيقيًّا لها، فجمالها لافت رغم لبسها شديد الاحتشام، كانت في قوام تلك الممثلة التي تُدعى (نرمين الفقي) وأقرب إلى وجهها وجه تلك الممثلة التي تدعى (نورا) في شبابها.

- مستوى جمال انحدر في خلال شهرين بصورة عجيبة يا أم جمال، وقد طلبت ولي أمره لمعرفة السبب.
- أنا عارفة يا أستاذ إيهاب، يا ريت لو حضرتك توافق تديله درس، وترجعه لمستواه.
- أنا لم أطلبكم عشان أديله درس، الولد لم يكن محتاجا للدرس أصلا، كان ممتازا من غير دروس... إيه اللي حصل؟
- الحقيقة هو كان بياخد درس باستمرار حتى في الصيف، وانقطع من شهرين بس. فيا ريت حضرتك تكمل معاه.
- كان بياخد فين، وانقطع ليه..؟ وبعدين الولد زي ما يكون تايه ومش مركز خالص، أنا حتى ما بَدِّيش دروس، لكن يا ريت ترجعيه للي كان بيديله.
- فقالت بعد تنهيدة شديدة تجترُّ همًّا عميقًا: للأسف صعب مش حعرف أرجعه، شوف حضرتك ممكن تساعدنا إزاي؟
- طيب ممكن تعرفيني على المدرس اللي كان بيديله وأنا أقابله وأتكلم معاه، لأنه كان ممتاز.
- أنت عجيب يا أستاذ إيهاب... عجيب فعلا... أول مرة ألاقي مدرس مهتم بس بمستوى تلميذ بجد..!!
- يمكن ظروفي مساعداني... المهم يا أمّ جمال... عرفيني بالمدرس عشان أكلمه.

كان الزملاء قد تركوا لنا الحجرة، فقالت بعدما تلفتت حولها لتتأكد من انفرادنا:

- أنا حقولك الحقيقة، أنت شكلك محترم وحعتبرك أخويا، يعني خال جمال مش أستاذه بس؛ جمال ما كانش بياخد دروس، كان والده هو اللي مهتم بيه وبيتابعه كل ليلة، وطلَّعَه التاني على مدرسته في الابتدائية....
ثم سكتت ووجهها في الأرض.
- وبعدين يا أم جمال... كَمِّلي.

- فأكملت بصوت منخفض: أقولك إيه بس؛ وبعدين يا سيدي لَاف على واحدة تانية، وما بقاش فاضي لنا، وبيجيلنا زي ما يكون ضيف.
- يعني اتجوز؟
- تقريبًا... مش متأكدة.

كانَ الموقف مفاجئًا لي، لم أكن أتوقع حوارًا كهذا، فسكتت للحظات، ثم استجمعت شجاعتي، ودفعت عن نفسي كل الحياء الذي يعتريني في مثل هذه المواقف، والذي كان لا يزال يشملني (من ساسي لراسي) حيث نشأتي في بيت ريفي محافظ، فقلت لها: - شوفي يا أم جمال، أنت قلتي إني زي أخوكي، وأنا حكلمك بصراحة، حضرتك ما شاء الله جميلة، لكن أكيد جوزك ناقصة حاجة، يعني مفيش مشاعر مثلا، أو نِفْسُه يعيش بطريقة معينة وحضرتك ولا واخدة بالك، ومشغولة بالعيال عنه... أو... فقاطعتني قائلة:
- فاهماك والله، من غير ما تفسّر، أنا قاهرية يا أستاذ إيهاب، ولما لقيته بيضيع مني ومن عياله، عملت له اللي بتعمله الرقاصات... مش عيب دا جوزي.
لكن مفيش فايدة، الموضوع كبير...


شارك :

أحدث المنشورات

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: