الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء التاسع)

شارك :









«رزقي بفضل الله يزيد في موسمين يا أستاذ إيهاب الامتحانات والانتخابات». جملة قالها لي باوْلو ذات يوم، وقد تعمَّدْتُ ألَّا يُفسِّرها؛ فقد اقترب موعد انتخابات مجلس الشعب، وقلت في نفسي: سأتابعها جيدًا، وكأنه اختبار لي، لأرى كيف يكسب منها باوْلو ويزداد رزقه فيها؟

مدرسة الزعيم من ضمن المدارس التي يكون بها لجنة انتخابات، وتُعَطَّل فيها الدراسة في ذلك اليوم من الصباح الباكر، ويُخلَى أحد الفصول الأرضِيَّة في مواجهة البوابة مباشرة، تستلمه لجنة الانتخابات، فتضع عليه قفلًا خاصًّا، وتُقِيم عليه حراسة مدة الانتخابات.

ورغم أنني لم يكن لي حق الإدلاء بالصوت -فلست من أبناء تلك الدائرة- كنت من أول الحاضرين من بداية اليوم، وتعجب بَاوْلو عندما رآني، فالمتوقع أن المدرسين يَعُدُّون تلك الظروف هبة ربانية وإجازة مجانية.

رحَّبَ بي باوْلو واستضافني في حجرته لدقائق، بعدها خرجت واتخذت مكانًا ومقعدًا مُشْرفًا على العملية الانتخابية في الدور الثاني أمام باب المكتبة، وقد اصطحبت معي كتاب (فن الأدب) لأستكمل قراءته بين الفينة والفينة.

كانت الأمور تسير بصورة ليس فيها ما يلفت النظر.. يوم كامل مملٌّ مَرَّ عليَّ.. ولم يبقَ على موعد غلق الصناديق إلا ربع ساعة.. وفجأة تدافع حوالي خمسين ناخبًا في وقت واحد متزاحمين على اللجنة التي كانت فارغة أغلب النهار.

تشاجر الناخبون، وكأنهم جاءوا ليتشاجروا، وعلت الأصوات، وكان من بينهم نساء، وغلب (الصّويت) على التّصويت، مما استدعى إخراج من في اللجنة جميعًا وغَلْقَها لخمس دقائق، ريثما انفضت المعركة وعادت الأمور إلى طبيعتها.


كان الأمر غريبًا؛ فسرعان ما اشتعل وسرعان ما انطفأ، وكأن هؤلاء البشر فرقة قامت بدور مرسوم بدأته بإشارة من (مايسترو) وأنهته بإشارة أخرى.

انتهى الموعد المحدد، وأُغلقت اللجنة وانصرفت الصناديق ومعها المراقبون... ولم أفهم شيئًا.

أقبل عليَّ باولو مبتسما مبتهجا؛ كمن تلقى من فوره خبر فوزه بجائزة نوبل.

- إيه يا أستاذ إيهاب؛ حضرتك مش حتروَّح..؟

- آه أكيد طبعا... أنا ماشي، سلام يا عم باوْلو.

- لو فاضي تعال اشرب الشاي معايا.

- يا ريت والله يا عم باوْلُو أنا أصلا دماغي صدّعت.

استضافني باولو في حجرته مرة أخرى، وأخذ يجهز الشاي ويجهز لنفسه حجر الشيشة، وإذا به يقول دون مناسبة:

- عارف يا بيه الدنيا دي عاملة زي إيه..؟

- زَيّ إيه..؟

- زَيّ قَطْر ماشي وما بِيَقَفْش، والشاطر اللي يجري ينط فيه عشان يِغَيّر من حياته، اللي ما يقدرش يعمل كده أو بيخاف، بيفضل واقف مكانه ما بيتقدمش، لحد ما يموت وهو واقف في نفس المحطة.

كان باوْلو يتكلم وهو منشغل بالشيشة، وقد أعجبتني حكمته، فإذا بها تتحول في وجداني إلى كلمات بالعامية، وأتذكر أنني قلت في نفسي:

«سِنِينْ ورَاهَا سنينْ بِتْفُوتْ وِبِتْعَدِّي

قَطْرِ الحَيَاةْ لَا بِيُقَفْ أوْ حَتَّى بِيْهَدِّي

والنَّاسْ بِتِجْرِي عَلِيه مِنْ غِيرْ مَا تِعْرَفْ لِيهْ

أوْ حَتَّى تِسْألْ فِينْ يَا قَطْرِ بِتْوَدِّي»

ثم قطع الوحي الشعري صوت باولو المفاجئ:

- على فكرة يا بيه؛ أنا عارف حضرتك شرفتنا النهاردة ليه.

- ليه يا عم باولو ...؟!

- عشان الكلمة اللي قلتهالك من زمان، إن رزقي بيزيد في الامتحانات والانتخابات.

فوجئت أن باوْلو يفهم كل شيء، ويعلم ما يدور في نَفْسِي، وأصبح لا بأس مطلقًا من الكلام على المكشوف، ثم قال لي بالحرف الواحد:

«شوف يا أستاذ إيهاب؛ مفيش حد غيرك بستريحله في المدرسة دي، لأني عارف إنك مستحيل تأذي حد، حتى لو بتكرهه؛ وعشان كده هأحكيلك كل أسراري؛ أنا أصلا عايز أحكيها، الواحد لما بيحكي بيحس بِرَاحة، سبحان الله، وكأن السر ده (طُور) أنا ماسكه بالعافية، لكن لو طلقته ممكن يقضي عَلَيَّ، لكن معاك أنت يا أستاذ إيهاب السّرّ في بير».

قلت مداعبًا: أو (الطُّور) في زريبة.

فرد باولو: اسم الله عليك يا بيه.

قل يا عم باوْلو؛ كيف كسبت اليوم من الانتخابات؟ أطْلِقِ الثور الذي بداخلك ولا تخشَ شيئًا.

ألقى باوْلُو نظرة على البوابة ليتأكد من غلقها، ثم دار ببصره في المدرسة ليتأكد أنها خالية من جميع الكائنات، حتى إنَّ قطّةً كانت تحوم في المكان، ففتح البوابة وأخرجها ثم أغلقها يإحكام، ثم قال: تعالَ معي.

فتبعته بشغف...

كانت الحجرة المجاورة لحجرة الانتخابات عبارة فصل اُتِّخِذَ مخزنًا للكتب والتخت والكراسي المكسرة، وعليه قفل ضخم، فتحه باولو.
بدا المكان مظلما ككهف، فبابه مقابل لبير السلم، ولا ضوء مباشر عليه، ومكدس بالأثاث المكسر، وعلى حائطه المجاور لفصل اللجنة سبورة ضخمة قديمة، لا تصلح للكتابة، وقد رسمت خيوط العنكبوت بينها وبين الحائط مجسمًا للمدرسة، منظر مريب حَقًّا، لا أدري ما الذي جعلني أشعر أني لست في المدرسة التي أمضيت فيها شهورًا، بل انتقلت إلى مكان مهجور لا أعرفه، وبدأت دقات قلبي تخفق بسرعة غير طبيعية.

- فيه إيه يا عَمّ باوْلُو.. أنت جايبني هنا ليه..؟!
- ما تخافش يا أستاذ إيهاب... بص... شايف إيه اللي في الركن دُول..؟!
أدخلت رأسي بحذر شديد من الباب، بينما جسمي خارج الكهف، ونظرت حيث أشار باوْلو، فصرخت في رعب مكتوم من هول المفاجأة...
- يا نهار أسود ومنَيِّل، إيه دا يا بَاوْلُو...؟!
كانت يد باوْلُو قد سارعت إلى فمي لتكتم صرختي:
- كده برضه يا بيه... حَا تطْلَق الطُّور من أول ما واربت لك الباب، وأنا اللي بقول عليك حويط..؟!!
.........
يتبع
شارك :

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: