الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء الثامن عشر)

شارك :


كان اليوم الدراسي قد انتهى، وانتهت أيضًا حصة المجموعات، وهي عقب كل يوم دراسي، ولا تستغرق سوى أقل من عشر دقائق، وهي مسألة شكلية لا قيمة لها، وبدأ الجميع يغادرون المدرسة، وحضر جمال إلى حجرة المدرسين ليرافق أمه إلى المنزل، ولم يكن هناك وقت لمعرفة ذلك الموضوع الكبير الذي تسبب في انشغال أبيه وضياع مستواه، فطلبَتْ منِّي أمّ جمال أن تحضر في يوم آخر إذا كنت راغبًا في معرفة التفاصيل، فتواعدنا على يوم الأربعاء؛ حيث الحصة الأولى عندي فارغة، ويمكنها الحضور مع جمال من أول اليوم.

ويا للحظ، لقد حضرت بالفعل، ولكنه كان من أيام الطوارئ، حيث زار المدرسة الأستاذ (كرم حاتم) موجه اللغة العربية، فاعتذرتُ لها وتواعدنا على الأربعاء القادم، فما أدراك ما الأستاذ كرم حاتم..؟!
لا أظن موجهًا يشبهه في العالم من قبله ولا من بعده؛ يبدأ الطابور الثامنة إلا ربع، ويستمر لربع ساعة، ويتحرك التلاميذ إلى الفصول في تمام الثامنة، وتبدأ الحصة الأولى الثامنة وربع.

في اليوم الذي يزور فيه الأستاذ كرم المدرسة دون موعد سابق طبعا، يحضر من الساعة السابعة ونصف صباحًا، وغالبًا يكون أوَّلَ الحاضرين قبل المدير نفسه، وقد يكون أوَّل من يوقظ باوْلو من النوم، ويبدأ بحجرة وكيل المدرسة، حيث سِجّل الحضور، يقعد بجوار السِجِّل يرى جميع مدرسي المدرسة وهم يوقعون، فإذا بدأ الطابور حضره، فإذا بدأت الحصة الأولى، أمسك سجّل الحضور وشطب على جميع من لم يحضر بالغياب، حتى لا يوقع في وقت لاحق، ثم ينتقل إلى حجرة المدرسين ليبدأ دوره التوجيهي.

في يوم شطبَ على خمسة مدرسين كانوا يأتون متأخرين بعد بداية الحصة الأولى، ومنهم مدرسان للرياضيات، وانفعل عبده الإمام، واعترض، وقال: ما للأستاذ كرم مُوجِّه اللغة العربية بنا؟! فسمعه الأستاذ كرم، فخرج من الحجرة وقال بكل صرامة:
«اسمع يا أستاذ، أنا جئت إلى المدرسة موجِّهًا، ولي صفتان، صفة إدارية تخص المدرسة كلها، وصفة فنية تخص أسرة اللغة العربية فقط، وأنا أعرف واجباتي ومسئولياتي جيدًا».

يجمع الأستاذ كرم جميع كشاكيل التحضير الخاصة بمدرسي اللغة العربية، وكذلك سجلات الدرجات الشهرية، ويقرأها كلمة كلمة، فإن وجد خطأ إملائيا أو نحويًّا وضع تحته خطًّا بالقلم الأحمر، وإن وجد خَطَأً منهجيًّا علَّق عليه كتابةً، يفعل هذا بصبر عجيب، ثم يدخل ليحضر حصة كاملة لأحد المدرسين، ثم يجمع الجميع في نهاية اليوم ويوجه نصائحه وتوصياته وأوامره، التي يجب أن يجدها كلها وقد تم تنفيذها في الزيارة التالية غير معلومة الموعد، ثم ينصرف مع انصراف المدرسة.

في ذلك اليوم بدأ الأستاذ كرم بإبداء ملاحظاته على ما تم تقديمه في الإذاعة المدرسية، واكتشف خطأ فادحًا، إذا قال الأستاذ محسن مقدم الإذاعة: «يَتْلُو عَلَيُكُم التِّلْمِيذ (فلان) مَا تَيَسَّرَ مِنْ سُورَةِ الزُّمُر».
وإذ بالأستاذ كرم في اجتماعه بنا يسأل الأستاذ محسن:
- ما اسم السورة التي قرأ منها التلميذ الذي قدمته في طابور الصباح يا محسن؟!
- سورة الزُّمُر.
احْمَرَّ وجه الأستاذ كرم من الغضب وهو يعيد السؤال مُحْتَدًا:
- اسمها إيه السورة يا أستاااااذ؟
- محسن وقد اصفَرَّ وجهه: (سورة الزَّمْر).
- الأستاذ كرم وقد بلغ به الغضب مبلغا، وهو يجيل بصره في وجوه أسرة اللغة العربية كاملة، ونحن صامتون متوجسون: زُمُر وزَمْر وطَبْل... لا حول ولا قوة إلا بالله... ثم (بصوت مرتفع): اسمها سورة الزُّمَر يا أساتذة، جمع زُمْرَة. يعني جماعة.

كان الأستاذ كرم قد حضر حصة للأستاذ محفوظ، وقرأ جميع كشاكيل التحضير، ووضع خطوطه الحمراء وتعليقاته فيها، فوزعها علينا غاضبًا، وتوجه لكل مدرس بنصيحة تناسب تقصيره، ولم يوجه كلمة للأستاذ محفوظ، ثم ودعنا وغادر المدرسة راجيًا أن يرى الحال أسعد في الزيارة القادمة.

تلقَّفَ كلٌّ منَّا كشكوله ليطالع ملاحظات الأستاذ كرم، وإذا بمحسن يجد سبعة خطوط حمراء، فَهِمَ عِلَلَها جميعا؛ فتلك مكتوبة هاء وحقها تاء مربوطة، وهذه الكلمةصوابها كذا.. وهكذا، ما عدا خَطًّا واحدًا، لم يستطع معرفة موضع الخطأ في الكلمة فوقه، وحاول ولم يستطع، فقال غاضبًا وكأنه يشهدنا على افتراء الأستاذ كرم:
- طيب دي فيها إيه..؟ كلمة (ليستذكر) ما لها؟
أخذ الجميع يراجع الكلمة، ليكتشف لماذا وضع الأستاذ كرم تحتها خطًّا أحمر، وأخيرًا اكتشفنا الخطأ بصعوبة.
- وريني يا محسن، عِدّ السُّنُون؛ هذه سِنَّةُ الياء، وثلاثة للسين، وسِنَّة للتاء، فما هذه السِنَّةُ الزائدة؟
كان الأستاذ محسن قد كتب سِنَّةً زائدة لا داعي لها من سرعة الكتابة، ولكن ما كان ذلك لِيَمُرَّ على الأستاذ كرم!!

لاحظنا وجوم الزميل محفوظ، وعدم مشاركته لنا في الحوار، وهو الوحيد الذي حضر له الأستاذ كرم حصته، ولم يوجه له كلمة بيننا، فتوجهت إليه:
- ما لك يا أستاذ محفوظ، دا حتى الأستاذ كرم راضي عنك ولم يكلمك.
- لأنه اكتفى بما قاله لي بعد الحصة.
- قال لك إيه؟
- أخذني على جنب وقال لي: (تعرف يا محفوظ، أنا لو جبت حمار ووقفته مكانك على السبورة حيشرح عربي أحسن منك).

غَلَبَنَا الضحك من اعتراف الأستاذ محفوظ، وقد كشف ما ستره الأستاذ كرم عليه، ولكن محفوظ لم يخجل من إذاعته، وكان فَكِهًا خفيفَ الظلّ لا يكف عن الهذار، وحقيقةً لم تكن له علاقة باللغة العربية.

لم ينج من الأستاذ كرم في ذلك اليوم إلا الأستاذ معصوم، فقد لمحه في الطابور وهو على باب المدرسة، فاستدار وعاد إلى منزله قائلا في نفسه: (يوم غياب أرحم من مواجهة الأستاذ كرم).

لكي لا تصطدم بالأستاذ كرم فعليك أن تَحْضُرَ إلى المدرسة يوميًّا قبل الموعد أو على الأقل في موعدك، وأن تكون جاهزًا بالتحضير ورصد الدرجات ومتابعة كراسات التلاميذ لآخر حصة، أيّ تقصير أو تكاسل سوف يلاحظه لا محالة، وتعليقاته دائما حادَّة ومستفزة، لا ينجو منها غير المثالي في كل شيء. ومن الذي يطيق ذلك..؟!

في أول معرفتي بالأستاذ كرم، لم أكن أطيقه، واصطدمت به، لإحساسي أنه يبالغ في كل شيء، ولا يتسم باللين مطلقا، وكنت أعترض على كل طلباته وملاحظاته، وشعر بذلك مني، وفي الزيارة التالية همس إليَّ: «يا ابني أنا عارف إنك مش طايقني، لكن أنت كويس، وأنا عارف إن إحساسك تجاهي بسبب سِنّك، وأنا على يقين إنك في يوم من الأيام إن شاء الله يا إيهاب ستذكرني بالخير». وقد صدق ما توقعه، لو كان بين الأحياء، وقابلته اليوم، لقبَّلْتُ رأسه ويديه وقدميه.
........
يتبع
شارك :

أحدث المنشورات

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: