خزانة الأديب :
في بلدنا ليس شرطًا أن يكون عملُك هو سبب ثرائك ولا المنصب الذي تشغله، فليس مُهِمًّا ماذا تعمل؛ وإنما المهم كيف تعمل..؟ فلا عجب من أن تجد بَوَّابًا معدمًا وآخر في العمارة المجاورة حصل على ثروة -وهو يعمل العمل ذاته- تفوق ثروة صاحب العمارة نفسه، وهكذا في كل الأعمال تقريبًا.. ويعلل الناس ذلك بعبارات مثل: (مشغّل دماغه) (ممشِّي حاله) (لَعِّيب).. وغير ذلك من العبارات التي تدل في ظاهرها على الذكاء والفطنة وفي حقيقتها على طرق ملتوية وغير شرعية للكسب الحرام إذا جاز أن نَصِفَ الحرام بأنه كَسْبٌ.
كان بَاوْلُو نموذجًا من هؤلاء الذين يُشَغِّلُون أدمغتهم، بل لم يترك خليَّة في مُخِّه إلا شغَّلَها في اتجاه واحد؛ وهو كيفية جمع المال من خلال تواجده في المدرسة، واستغلال كل دقيقة وكلِّ ذرَّة تراب، دون أن يجور على حقِّ أحدٍ في المدرسة. فما قَدِمَ وافد إلى المدرسة سواء كان ضيفًا أو وليَّ أمر إلَّا قابله بحفاوة وترحاب، يضطره إلى أن يمد يده بما فيه النصيب، ولو كان أبخل البخلاء.
أما المقصف فقد أجاد إدارته بشراء أسوأ المشروبات والعصائر وأرخصها وأردئها، ثم بيعها بأعلى سعر للتلاميذ، وكذلك السندوتشات وغيرها.
أما فناء المدرسة فقد كان كنزًا مهمًّا؛ فبعد أن ينصرف الجميع وبعد الدراسة بساعتين، يبدأ تأجيره لأطفال المنطقة بالساعة للعب الكرة، الساعة بعشرين جنيهًا، أما يوم الجمعة، فيستمر تأجير الفناء من أول ضوء لآخر ضوء، لا يتوقف إلا وقت صلاة الجمعة.
والغريب أن بَاوْلُو لم يكن يقعد ليشاهد الأطفال أثناء اللعب، وإنما كان لاعبًا أساسيًّا
ضمن أحد الفرق، فيبدو وكأنه يلعب مع أصدقائه وليس يدير تجارة.
وهذا اللعب المتواصل المنتظم المجاني رفع مهارته، فأطلق عليه لقب (بَاوْلُو) تشبيهًا ببَاوْلُو رُوسِّي لاعب الكرة الإيطالي الشهير.. حتى إن اسمه الأصلي الحقيقي نُسِيَ تمامًا، ولم يعد معروفًا لدى الإدارة ولدى الجميع إلا باسم بَاوْلُو، حتى هو ذاته لم يعد يذكر اسمه، ويُقَدِّمُ نفسه لكل وافد جديد بقوله (خدَّامك بَاوْلُو)..
رغم إن باوْلُو قصير وبدين، وله كرش لا بأس به؛ فقد كان قادرًا على القفز عاليا ليضرب الكرة برأسه، وكذلك الجري أسرع من الجميع، ولكن تعامله مع الكرة يبدي مهارة في اللعب، كما إنه يعكس صورة كاريكاتورية نظرًا لعدم تناسق جسمه رياضيًّا. وهو شخصية محبوبة من الجميع، رغم استغلاله المشهور للمدرسة.. فقد كان يفعل ذلك على مذهب الأستاذ عبده منصور الذي مؤدَّاه الصراحة في الوقاحة.
بل إن الأستاذ عبده منصور كان يضرب به المثل دائما كنموذج للمخلصين في المدرسة، الذين وهبوا حياتهم ودماغهم وجهدهم لها، والحقيقة أن باوْلُو لم يكن يدع صنبورًا مكسورا، ولا لمبة محروقة، إلا سارع في إصلاحها بمعرفته.. حتى الثلاجة التي في حجرة المدير لم تكن تخلو من خيرات باوْلو.
وذات مرَّة عزم عليه الأستاذ عبده منصور من باب الواجب بأن يحاسبه على ما يرصه في الثلاجة من خيرات، فابتسم باولو مُقْسِمًا أمام الحاضرين أنه لم يدفع مليمًا من راتبه، وكل ذلك من خير المدرسة بفضل الله، ثم حُسْن إدارة عبده بيه منصور ومخه الكبير.
ولم أزل أذكر ذلك المشهد يوم السبت الذي فتح فيه المدير الثلاجة فوجدها مكدسة بالحلوى الفاخرة [جاتوهيات] عن آخرها، فتعجب وسأل باولو:
- ما كل هذا يا باولو..؟
- أبدًا يا بيه.. دي حاجة بسيطة.. من فرح الأمس اللي كان في فناء المدرسة.
- فرح يا باوْلو..؟ أنت أجَّرْت المدرسة لإقامة فرح..؟!
- فرح إسلامي محترم وحياة حضرتك يا بيه.. لا فيه رقص ولا غنا ولا قلة أدب.. حاجة تليق بمدرسة حضرتك المحترمة.
همَّ الأستاذ عبده منصور بالانفعال.. وقبل أن يرفع عقيرته على باوْلو.. اقترب منه مبتسمًا وقال: حضرتك عارف أنا أجَّرْته بكم؟ 500 جنيه بالتمام والكمال في درج سعادتك.
فقال الأستاذ عبده منصور بصوت هادئ يسمعه الجميع: أيوه كده طالما فيها مصلحة للمدرسة.. وطالما الناس غلابة لا يقدرون على حجز قاعة.. وطالما الفرح محترم.. إذن لا مشاكل.. لكن كان يجب أن تخبرني قبلها يا باولو.
ثم هرش في رأسه وراجع نفسه وقال لباولو: برافو أنك لم تخبرني قبلها؛ لأنك لو أخبرتني ما وافقت.. يا باولو في مثل هذه الأمور تصرف أنت.. ولا تخبرني إلا بعدها.. فاهم..؟
- فاهم يا عبده بيه.
رغم ذلك كان باوْلُو يرى كل هذا الدخل نوعًا من النثريات المستمرة الضئيلة التي لا تحقق ثروة، أما المواسم التي يُرْزَق فيها، وُيِحدّد بناءً عليها موعد تزويج أبنائه، أو شراء قطعة أرض، أو تعلية دور في العمارة التي ينشئها في البلد، أو غير ذلك.. فكانت مواسم الامتحانات والانتخابات.
هكذا قالها لي بنفسه: رزقي بفضل الله يزيد في موسمين يا أستاذ إيهاب الامتحانات والانتخابات.
أما الامتحانات فأستطيع أن أخمن كيف يكسب فيها باولو، وأما الانتخابات فهذا ما لم يخطر ببالي مطلقًا، ويعجز عن إدراكه خيالي المحدود، الذي لا يطاول هؤلاء العباقرة.. لولا ثقتهما الكبيرة فيَّ هو والأستاذ عبده السيد وكيل المدرسة ما كنت عرفت عن ذلك شيئًا أبدًا..
.........
يتبع...
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: