الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء السادس)

شارك :
خزانة الأديب :

فَرْقٌ كبير بين أن تعرف الكلام وتحفظه وتردده، وأن تعيشه وتراه فعليًّا، كنت أردد الدعاء المأثور: (اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه) وأفهم معناه، أما أن أراه بعيني بهذه الصورة العملية فهذا ما عشته في ذلك اليوم من أيام المدرسة، طبيعي أن يكون بين البشر مذنبون وهم يعلمون أنهم مذنبون، أما أن يعتبروا الشرَّ خيرًا والخير شرًّا ويعتقدوا هذا يقينًا، فذلك ما لم أكن أتوقعه وأتخيله بهذا التضليل.
الزمان: بعد نهاية اليوم الدراسي في بداية الشهر الثاني من بداية العام الدراسي.
المكان: المكتبة الميمونة.

الحدث: الاجتماع الثاني لجميع المدرسين والإداريين مع مدير المدرسة.
الموضوع: تنظيم المجموعات المدرسية.

المدرسة للبنين فقط، ولا يوجد بها أيَّة مُدَرِّسة؛ فجميع المدرسين ذكور، الأنثى الوحيدة في المدرسة هي أبلة عبير أمينة المكتبة، وفي نهاية اليوم تنصرف أبلة عبير ويصبح اجتماع المدير الأستاذ عبده منصور بالهيئة التعليمية ذكوري بنسبة 100% وهذا ما يرفع الحرج عن جميع الأساليب واللغات والكلمات الخارجة والداخلة.

توسط الأستاذ عبده الترابيزة كالعادة، واتخذت مكاني في قبالته تمامًا، وبدأ الكلام وعن يمينه الأستاذ عبده السيد وكيل المدرسة:
- كل سنة وحضراتكم طيبون.. لقد تركتكم شهرًا كاملًا.. أعتقد إن كل مدرس استقر في فصوله، وأصبح معروفًا في رقبته كم رأس.. من الآخر.. كنت في اجتماع الإدارة التعليمية، وقد أبلغني السيد مدير الإدارة؛ بناء على ما أبلغه السيد وكيل الوزارة؛ بناء على ما أبلغه السيد معالي وزير التعليم.. بأن تقييم أداء كل مدرسة تعليميًّا يكون بناءً على قيمة المبلغ الذي تورده عن المجموعات المدرسية، فكلما كان المبلغ المورَّد كبيرًا كانت العملية التعليمية في تلك المدرسة تسير على النحو الأفضل، وطبعًا العكس صحيح فكلَّمَا كان المبلغ ضئيلًا كانت المدرسة (ضايعة).
- قلت مقاطعًا: غلط.. هذا غلط.. المفروض العكس يا أستاذ عبده؛ يعني كلما كان المبلغ كبيرًا فهذا دليل على أن المدرسين لا يهتمون بالشرح في الحصص المدرسية مما يضطر التلاميذ للالتحاق بمجموعات التقوية.. أما قلة المجموعات وقلة المبالغ الموردة عنها فهذا يدل على أن العملية التعليمية الأساسية في الحصص الأساسية تسير على النحو الأفضل.. كان ينبغي أن تصحح للسيد مدير الإدارة ليصحح للسيد...
- عبده منصور مقاطعًا بحدة: ماذا تقول يا أستاذ إيهاب..؟ لا تقاطعني.. ودعني أُكْمل عملي.. الأمر لا يحتمل الهذار.. المهم.. كل مدرس معه فصل أو فصلان أو أكثر من فصول النقل عليه أن يورِّدَ جُنيهًا عن كل رأس في رقبته..
عندك الأولاد افعل معهم ما تشاء..
أعطهم مجموعات أو دروسًا خصوصية..
هذا لا يعنيني..
ربنا يبارك لك.. والقلب داع لك والله..
المجموعة مُسَعَّرَة بسبعة جنيهات من الوزارة، والدرس حضرتك حُرٌّ في تسعيرتك يبدأ من عشرين جنيهًا إلى خمسين وأكثر.. وأنا أعلم أن بعض التلاميذ وهم قلة قليلة لا يأخذون درسًا ولا مجموعة، وربما يكونون قد خرجوا من طَوْعِك، ويُنَفِّعون مدرِّسًا آخر، لكن الباقي حضرتك ستكسب من ورائهم الكثير.
أنا رجل واضح وأحب الصراحة، سنأخذ من حضرتك جنيهًا واحدًا فقط عن كل رأس، يعني الذي في رقبته 80 رأسًا سيدفع 80 جنيهًا في الشهر فقط... (يا بلاش) وطبعًا حضرتك مستحيل تأخذ من ورائهم أقل من 1000 جنيه.
هذه المبالغ سيتم توريدها رسميًّا إلى الإدارة، أنا لا آخذ منها شيئًا هي لا تعنيني.
أنا بذلك أحميكم وأعمل على إظهار مدرستكم في أحسن صورة.
وأي واحد منكم يذهب إلى الإدارة في أي طلب، فقط يذكر أنه من مدرسة الزعيم، وليرَ كيف سيتعاملون معه.
كان عبده منصور يستطرد في شرح ما يريد ملوِّحًا بيديه ومشرئبًا بعنقه، بينما أنا شارد فيما يقول، وقد أسندت رأسي على يديَّ، وأشحت بوجهي عنه مدقِّقًا نظري في المنضدة أمامي، غارقًا في اكتئاب مما أسمع، وفجأة سمعته يوجه كلامه إليَّ وكأنه لاحظ شرودي عنه.
- أنت مش معايا يا أستاذ إيهاب ولا إيه..؟!
- لا طبعًا لست معك..
ولن أكون معك أبدًا..
هذا الذي تقوله مسخرة..
كيف تصف التلاميذ بأنهم رؤوس.. وكأنهم رؤوس ماشية..؟
أنا ما جئت إلى هذه المدرسة لأعمل كَلاَّفًا أربِّي عجولًا وأبقارًا وأحلبها آخر الشهر، لأرسل الحليب إلى معالي الوزير والمنتفعين حوله... أنا يا مربي يا محترم (ورحت خابط المنضدة بيدي خبطة أرعبت كل الحاضرين) مدرس محترم معلِّم أجيال.
لن أمُدَّ يدي لتلميذ من تلاميذي لآخذ منه قرشًا.
وإنما أمدها معلِّمًا ومؤدِّبًا ومقَوِّمًا.
كنت محتّدًّا لدرجة تمنع أي إنسان من مقاطعتي، وما عليه إلا أن يكتم أنفاسه حتى أنفث كل غضبي، وكان عبده منصور والمدرسون حوله يستمعون إليَّ مشدوهين وكأنهم يتمنون أن أسكت، ولكنني واصلت كلامي:
كيف نعلم التلاميذ ونحن نمد أيدينا إليهم..؟ افترض أن مدرسًا لا يعطي مجموعات ولا دروسًا خصوصية، أيكون مقصِّرًا..؟ ثم إن راتبي 73 جنيهًا؛ كيف أدفع للوزارة 80 جنيهًا..؟! إن من يفعل ذلك فهو محض لص.
ومن يوافقه فهو لص مثله.
ومن يسمع أو يحضر هذه الجريمة ولا يعترض؛ فهو ليس شيطانًا؛ وإنما أبو الشياطين ومديرهم.
ومن...
وقبل أن أكمل الـمَنْمَنَات إلى آخرها نهض مدرس أول العلوم ومدرس أول اللغة العربية وأغلقَا فمي بيديهما، وقد أمسكني كل منهما من ناحية؛ بينما الأستاذ عبده منصور كان قد نهض واقفًا واستند بيديه على الترابيزة وهو ينظر إليَّ متأهِّبًا تأهُّب الأسد قبل أن ينقض على فريسته، ولكنَّ الأستاذين عاجلاه بقولهما:
- دع لنا الأستاذ إيهاب يا أستاذ عبده، ونستأذنك أن نخرج به من المكتبة، واعذره فإنه جديد على العمل، ولا تغضب منه إنه مثل أبنائك مهما حدث.
لم يتكلم الرجل.. وقبل أن أعترض على تشبيهي بأبنائه؛ كان الأستاذان قد جرَّانيَ جَرًّا إلى خارج المكتبة.
..........
يتبع...
شارك :

أحدث المنشورات

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: