الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام يكتب : من مذكرات مدرس (الجزء الثاني)

شارك :
خزانة الأديب :
الدكتور الشاعر إيهاب عبد السلام

عادة لا تحتفظ الذاكرة بكل مشاهد الحياة، فيتم حذف العديد من المواقف والذكريات، ولكن بعض المشاهد تبقى عالقة في الذاكرة لا تبرحها مهما توالت بعدها الأحداث وتزاحمت، ولا أعرف نسقًا محددا يفصل بين ما يُحْذَف وما يستقر، فليس لتاريخ الحدث أي اعتبار لهذا، فقد أتذكر أشياء رأيتها في سن خمس سنوات كأني أراها الآن بعد مرور أربعين عامًا عليها، بينما نسيت تمامًا مشاهد من عشرة أو عشرين عامًا لا أكثر.


من المشاهد المستقرة في الذاكرة تلك التي رأيتها في (التياترو) في مولد سيدي إبراهيم الدسوقي في الطفولة المبكرة، وقد كانت تبدو خارقة للعادة، كنت أشاهدها في صحبة أسرتي مشدوهين دون أن ندري تفسيرًا لها.. كتلك السيدة العجيبة التي فقدت جسمها كله ولم يبق منها سوى رأس ورقبة فقط تظهر لنا على المسـرح وتحدثنا.. وغيرها من العجائب التي كان يجريها الحواة.


تذكرت هذا كله وأنا أتابع الأستاذ عبده منصور مدير المدرسة، في الاجتماع الأول قبل بداية العام الدراسي لوضع النقاط على الحروف، وقد توسط المنضدة الكبيرة في المكتبة وتراصَّ المدرسون والإداريون حولها، وقد اتخذتُ أنا المقعد المقابل للأستاذ عبده في الجهة الأخرى، فكنت قبالته تمامًا، لا يحتاج كلانا لليِّ عنقه كي يرى الآخر، وما عليه إلا أن ينظر أمامه في خط مستقيم وعنق قويم ليتابعه متابعة الفأر للقط أو القط للفأر.. صمتٌ شديدٌ حتى اكتمل الحضور.. وفجأة بدأ الأستاذ عبده منصور بفعل عجيب وليس بالكلام.. وهذا ما ذكرني بمشاهد الحواة في (تياترو) سيدي إبراهيم الدسوقي؛ لقد رفع نظارته عن عينيه، ثم مدَّ يده اليمنى إلى عينه اليسرى ونزعها تمامًا من وجهه (آه والله العظيم)..!

كنت مشدوهًا من المنظر، بل كاد يغمى عليَّ، وأحسست بدوار في رأسي ولكنني تمالكت نفسـي خاصة وقد أجَلْتُ بصـري في الموجودين حولي، فلم أرَ أية علامات استنكار أو تعجُّب أو دهشة مما يحدث.. وكأنني الإنْسِيُّ الوحيد بين مخلوقات عجيبة.. وقبل أن يستبد بي الذهول كان الأستاذ عبده منصور قد مدَّ يده بعينه يعرضها على الحاضرين، ثم وضعها أمامه وقال بثقة الشجعان:
- أنا أعور يا حضـرات.. ولي عين من زجاج.. هل ترون..؟ أنا أعور؛ بهذه الصـراحة والوضوح يجب أن نتعامل خلال العام. وهذا منهجي، وهذا مبدئي، وهذه طريقتي.
«روح يا شيخ الله يخرب بيت أمّك نشّفت دمي، وطلَّعْت روحي، وقطعت خلفتي، فمن الصعب أن أُنجب بعد هذا المشهد الفظيع، ألم تجد غير هذه الطريقة لتوصِينا بالصراحة..» هكذا قلت في نفسي.

والحقيقة أنني لم أكن أعلم قبل هذا المشهد أن هناك أعينًا زجاجية يتم تركيبها لمن فقدوا أعينهم وتمت تصفيتها، كنوع من التجميل.
عبده منصور مدير المدرسة، رِبْعَة، أحمر البشـرة، نصف رأسه أصلع، يمشي دائمًا ويداه مضمومتان إلى جانبه رافعًا وجهه بزاوية 45 درجة وكأنه يحيي العلم، ذلك أنه منحدر من كونه مدرسًا للتربية الرياضية، يلبس بذلة صيفية باستمرار صيفًا وشتاءً؛ ما يتغير في الشتاء أنه يرتدي تحتها فانلة من صوف وإذا اشتد البرد جعلهما فانلتين، أما المظهر الخارجي فثابت، وكان يتبدل ثلاثة ألوان لا رابع لها؛ (البيج والكاكي والبُنِّي)، لم أره في لون آخر، وطبعًا حضـرته يتصف بالصراحة ومن التَّزَيُّد أن أقول بعدما حدث أنه بسلامته أعْوَر .

كان الأستاذ عبده منصور يتحدث ويخصني أنا ومدرسَيْن آخرين جديدين بمعظم نظراته وكلامه، فباقي الموجودين يعرفونه جيدًا؛ فهم في المدرسة منذ أعوام ماضية، وقد استمعوا حديثه وتوصياته وحفظوها عن ظهر قلب، وهذا الاجتماع بالنسبة إليهم تحصيل حاصل ومعدوم القيمة، ولو اجتمع الأستاذ عبده بالثلاثة الجدد لكان أجدى ..

المهم أن مما قاله عبده بيه منصور بعدما أعاد عينه إلى مستقرها في وجهه وسترها بنظارته :
أنا رجل صريح.. أنتَ مدرس.. وسوف تبدأ عامًا جديدًا.. ليس عيبًا أن تحرص على مصلحتك.. وأن تعمل وتكسب.. ودوري أني أحميك.. وأغطي ظهرك.. أنا أحمل عنكم الكثير.. ويجب أن تراعي ذلك.. وأن تعلم ما أفعله من أجلك.. لا تظن أن الحياة سهلة.. وأن ما تفعله لا يصل إلى الإدارة.. ولا تظن أنني أتركك لهم.. أو لأولياء الأمور لينهشوك.. الذي عمل معي في السنوات الماضية يعلم من هو عبده منصور.. فاسألوا أهل الخبرة إن كنتم لا تعلمون (قالها وكأنه يعني الجدد).

ثم ارتفع منحني الصـراحة لدى الأستاذ عبده، واقترب من اقتلاع عينه أمام أعيننا فقال ما لم أكن أتوقعه، وكأنه لم يكتفِ بالتلميح :
يعني لو مدرس ربنا فاتح عليه ويعطي دروسًا بكذا وكذا.. ربنا يبارك له- ثم يعطيني، بِنِيَّة أنه يعطي والده عشـرين جنيهًا، والده الذي يدافع عنه ويتعب من أجله.. هل في هذا شيء..؟ هذا ليس عيبًا.. أنا لا أُجبر أحدًا.. ولا أطلب من أحدٍ.. لكن عندما أجد أبنائي يحبونني فهذا يدعو إلى الفخر.. وآخذها بسماحة نفس ..

لكني أكررها وأؤكدها : من يفعل ذلك دون سماحة نفس فالله الغني .. لا أريد منه شيئًا.كنت أستمع إليه بكل جوانحي وأنا مندهش مأخوذ من هذه الصراحة التي تشارك الوقاحة في زِيٍّ واحد ..

وكان بجانبي الأستاذ (عمرو) زميلي في أسرة اللغة العربية، وكان من ذوي الشهرة في موضوع الدروس وجَمْع الفلوس، وقد انتقل إلى مدرسة الزعيم في بداية هذا العام، ولكنه لم يكن جديدًا على العملية التعليمية ، فكان صاحب خبرة ثلاث سنوات مرَّت، فهمس لي:
(وحياة أمه لن يأخذ مني مليمًا واحدًا.. هذه مسألة مبدأ ليس بخلًا بعشـرين جنيه يأخذها على الحذاء.. وسأرى ماذا سيفعل معي..؟

كنت مدركًا من كلام الأستاذ عبده كيف يمنع شرَّ الإدارة عن مدرسيه، ولكن تأخر فهمي وإدراكي شهرين كاملين لكيفية منعه أولياء الأمور من أن ينهشوا مدرسًا.. عندما رأيت وسمعت ما حدث مع الأستاذ عمرو في فناء المدرسة من سيدتين غجريتين كان صوتهما أعلى من صوت الميكروفون في طابور الصباح

شارك :

أحدث المنشورات

الأدب وفنونه

الشاعر إيهاب عبد السلام

قصص قصيرة

من مذكرات مدرس للشاعر إيهاب عبد السلام

ما رأيك بالموضوع !

0 تعليق: