خزانة الأديب :
رغم أنني كنت أعلم جيدًا أن استلامي للعمل كمدرس هو مجرد مرحلة من حياتي لا أرجو أن تطول، فقد كنت سعيدًا وأنا متوجه إلى المدرسة أحمل خطاب التعيين من الإدارة التعليمية، فرغم الدخل البسيط يظل للوظيفة الحكومية رونقها خاصة في بلد يعلو فيه صوت الحكومة على صوت الشعب، حتى بدت كعائلة شديدة النفوذ قوية الشكيمة .
المدرسة في إحدى الحارات المليئة بالتجار في قلب القاهرة حتى إنك لا تستطيع أن تصل إليها راكبًا ولا بد من أن تترجل من أول الحارة، ومن الصعب أن تصل إلى المدرسة التي هي في منتصف الحارة تقريبًا دون أن تصطدم بأحد المارة أو بالبضائع المعروضة أمام المحلات، والحارة تتلوى كالثعبان حتى إنك لا ترى أكثر من عشرة إلى عشرين مترا أمامك ويبلغ طول الحارة قرابة تسعمئة متر.
تتسع الحارة قليلًا في المنتصف تقريبًا بعد انحناءة، ويبدو عن الشمال حائط قديم له باب لا يُفتح يقال إنه مبنى أثري، تتكوم عليه القمامة ثم تضيق الحارة وتعود إلى اتساعها الأول وكأن ذلك الثعبان ابتلع هذه الأكوام من القمامة لتوِّه، وفي هذه المنطقة من بطن الثعبان -أعني الحارة- توجد عن يمينك بوابة حديدية سمراء اللون مغلقة دائمًا، لا تلفت نظر من يمر من أمامها، فهي لا تثير الانتباه مطلقًا، وكذلك اللوحة التي تعلوها وقد غطت الأتربة المكتوب عليها ولكنك ببعض التركيز تستطيع أن تقرأ: (مدرسة الزعيم الإعدادية)، ما جعلني أمر ثلاث مرات ذهابًا وإيابًا من أمامها ولا ألتفت إليها، وظللت هكذا... أسأل، فيقال لي: ارجع. فأرجع مارًّا من أمامها حتى يقال لي: ارجع ... إلى أن أمسكني أحد العمال في الشارع من يدي كالطفل التائه، وأشار إلى البوابة حتى لمسها بإصبعه قائلًا: (المدرسة أهه يا أستاذ) .
هذا الموقع كان له دور كبير فيما يحدث خلف هذه البوابة، وما إن تنفتح أمامك حتى يأخذك العجب؛ فكيف قامت هذه المدرسة بأبنيتها في عمق هذه المنطقة الرائدة في العشوائية..!
دفعت الباب برفق فلم يندفع، دققته فلم يستجب أحد، فأخذت أبالغ في عنف الدقات حتى سمعت صوتًا من الداخل:
(حاضر يا اللي برة.. طوِّل بالك) ثم سمعت صراعًا مع المزلاج مصحوبًا بصوت يشبه هسيس كلب بعد نباح شديد، ثم انفتح الباب.
- تفضل يا بيه.
- شكرا يا حضرة، أنا مدرس جديد، أين المدير؟
- وأنا خدامك (السيد بَوْلُو) بواب المدرسة، حضرتك نورتنا، المدير الأستاذ عبده منصور في الدور الثاني على اليمين.
- شكرا لحضرتك.
أبنية المدرسة على شكل حرف U وإن شئت الدقة فقل كحدوة الحمار، ومع مرور الوقت أدركت أنني كنت أنا الحمار ذاته عندما وافقت على أن تمر حياتي بعملي مدرسًا في ذلك الحين، ليس كرهًا لشرف المهنة التي تشبه عمل الأنبياء خاصة إذا كنت مدرس لغة عربية ودين، وإنما إنكارًا للمكان والزمان والسياسة... أعني طبعًا السياسة التعليمية.
في المدرسة يطلقون على كل مدرسي مادة معينة لقب أسرة؛ فيقال: أسرة اللغة العربية، وأسرة المواد الاجتماعية، وهكذا... ولكل أسرة رب أسرة متمثل في المدرس الأول، والمدرسة أم الجميع.
ولكنها على ما يبدو أُسَر تكونت في ظل انحلال أخلاقي لأب فاسد وأم مستهترة خائنة حملت جميع أبنائها سفاحًا من آباء مختلفين، فلم تضم هذه الأسر أشقاء خالصين، بل لم تحمل من مسمى الأسرة سوى الوصف فقط، وإن كان من الصعب أن تكتشف ذلك من أول وهلة، ولا من الوهلة الألف، ما لم تتعايش معهم وتسمع وترى ما يفعلون.
على كل حال لقد أصبحت من اليوم فردًا من أفراد أسرة اللغة العربية
----------------------------------
منقول من صفحة الشاعر الشخصية
الرجاء التفاعل بنشر المقال والتعليق بالرأي لتزداد قوة المدونة على جوجل ؛ للاستمرارية في النشر . .
رغم أنني كنت أعلم جيدًا أن استلامي للعمل كمدرس هو مجرد مرحلة من حياتي لا أرجو أن تطول، فقد كنت سعيدًا وأنا متوجه إلى المدرسة أحمل خطاب التعيين من الإدارة التعليمية، فرغم الدخل البسيط يظل للوظيفة الحكومية رونقها خاصة في بلد يعلو فيه صوت الحكومة على صوت الشعب، حتى بدت كعائلة شديدة النفوذ قوية الشكيمة .
المدرسة في إحدى الحارات المليئة بالتجار في قلب القاهرة حتى إنك لا تستطيع أن تصل إليها راكبًا ولا بد من أن تترجل من أول الحارة، ومن الصعب أن تصل إلى المدرسة التي هي في منتصف الحارة تقريبًا دون أن تصطدم بأحد المارة أو بالبضائع المعروضة أمام المحلات، والحارة تتلوى كالثعبان حتى إنك لا ترى أكثر من عشرة إلى عشرين مترا أمامك ويبلغ طول الحارة قرابة تسعمئة متر.
تتسع الحارة قليلًا في المنتصف تقريبًا بعد انحناءة، ويبدو عن الشمال حائط قديم له باب لا يُفتح يقال إنه مبنى أثري، تتكوم عليه القمامة ثم تضيق الحارة وتعود إلى اتساعها الأول وكأن ذلك الثعبان ابتلع هذه الأكوام من القمامة لتوِّه، وفي هذه المنطقة من بطن الثعبان -أعني الحارة- توجد عن يمينك بوابة حديدية سمراء اللون مغلقة دائمًا، لا تلفت نظر من يمر من أمامها، فهي لا تثير الانتباه مطلقًا، وكذلك اللوحة التي تعلوها وقد غطت الأتربة المكتوب عليها ولكنك ببعض التركيز تستطيع أن تقرأ: (مدرسة الزعيم الإعدادية)، ما جعلني أمر ثلاث مرات ذهابًا وإيابًا من أمامها ولا ألتفت إليها، وظللت هكذا... أسأل، فيقال لي: ارجع. فأرجع مارًّا من أمامها حتى يقال لي: ارجع ... إلى أن أمسكني أحد العمال في الشارع من يدي كالطفل التائه، وأشار إلى البوابة حتى لمسها بإصبعه قائلًا: (المدرسة أهه يا أستاذ) .
هذا الموقع كان له دور كبير فيما يحدث خلف هذه البوابة، وما إن تنفتح أمامك حتى يأخذك العجب؛ فكيف قامت هذه المدرسة بأبنيتها في عمق هذه المنطقة الرائدة في العشوائية..!
دفعت الباب برفق فلم يندفع، دققته فلم يستجب أحد، فأخذت أبالغ في عنف الدقات حتى سمعت صوتًا من الداخل:
(حاضر يا اللي برة.. طوِّل بالك) ثم سمعت صراعًا مع المزلاج مصحوبًا بصوت يشبه هسيس كلب بعد نباح شديد، ثم انفتح الباب.
- تفضل يا بيه.
- شكرا يا حضرة، أنا مدرس جديد، أين المدير؟
- وأنا خدامك (السيد بَوْلُو) بواب المدرسة، حضرتك نورتنا، المدير الأستاذ عبده منصور في الدور الثاني على اليمين.
- شكرا لحضرتك.
أبنية المدرسة على شكل حرف U وإن شئت الدقة فقل كحدوة الحمار، ومع مرور الوقت أدركت أنني كنت أنا الحمار ذاته عندما وافقت على أن تمر حياتي بعملي مدرسًا في ذلك الحين، ليس كرهًا لشرف المهنة التي تشبه عمل الأنبياء خاصة إذا كنت مدرس لغة عربية ودين، وإنما إنكارًا للمكان والزمان والسياسة... أعني طبعًا السياسة التعليمية.
في المدرسة يطلقون على كل مدرسي مادة معينة لقب أسرة؛ فيقال: أسرة اللغة العربية، وأسرة المواد الاجتماعية، وهكذا... ولكل أسرة رب أسرة متمثل في المدرس الأول، والمدرسة أم الجميع.
ولكنها على ما يبدو أُسَر تكونت في ظل انحلال أخلاقي لأب فاسد وأم مستهترة خائنة حملت جميع أبنائها سفاحًا من آباء مختلفين، فلم تضم هذه الأسر أشقاء خالصين، بل لم تحمل من مسمى الأسرة سوى الوصف فقط، وإن كان من الصعب أن تكتشف ذلك من أول وهلة، ولا من الوهلة الألف، ما لم تتعايش معهم وتسمع وترى ما يفعلون.
على كل حال لقد أصبحت من اليوم فردًا من أفراد أسرة اللغة العربية
----------------------------------
منقول من صفحة الشاعر الشخصية
الرجاء التفاعل بنشر المقال والتعليق بالرأي لتزداد قوة المدونة على جوجل ؛ للاستمرارية في النشر . .
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: