خزانة الأديب :
انضممت إلى أسرة اللغة العربية، ولأنه لا توجد في المدرسة إلا حجرة واحدة لجميع الأسر، فقد كانت تلتقي في تلك الحجرة، وقد اعتدت أن أتلطف في كلامي مع الجميع، وأبتسم في وجوههم مهما اختلفت طباعهم ممتثلًا بيتين من قصيدة كتبتها في بداية حياتي الشعرية :
سَأبْسِمُ للمَصَائِبِ حِينَ تَأتي ** وَلَوْ كَانَ ابْتِسَامًا مُسْتَعَارَا
وَأبْدُو بَيْنَ خَلْقِ اللهِ بَرْدًا ** وَلوَ أشْعَلْتِ بَيْنَ القَلْبِ نَارَا
وهذه الابتسامات جعلتني مقرَّبًا منهم.. مستأمنًا على أسرارهم.. وقد ازدادت هذه الثقة عندما تأكدوا في أول شهر من الدراسة أنني لا أتكالب بل لا أهتم من الأساس بموضوع الدروس الخصوصية، وذلك الموضوع هو حجر الزاوية، بل جميع الزوايا، ومربط الفرس والحمار والبقرة والجاموسة وكل البهائم بالنسبة لهم، فإذا تعفف عنه مدرس، استطاع أن ينال حب الجميع بسهولة؛ إنه يكون أشبه بالشقيق المتنازل عن ميراثه بين أشقاء أشقياء يعبدون المال، وقد نفضوا أيديهم من دفن أبيهم بعدما تكالبوا عليه وقتلوه، وقد كان الجميع بالفعل يَعدون التلاميذ ميراثًا مُهِمًّا ينبغي اقتسامه بعدالة معقولة. هذه الثقة والمحبة جعلت الأستاذ هشام من أسرة الرياضيات يبوح لي بما لا يُبَاح به.
أجمل ما في المدرسة المكتبة، وأجمل ما في المكتبة أبلة عبير، تلك الزهرة التي تزين المكتبة، وديعة هادئة، لديها من الجمال قدر لا بأس به، ولكن رقتها ضافية، وأنوثتها طاغية، فإذا أضفتهما إلى ما تتمتع به من جمال اكتملت الحالة الأنثوية فسَرَّتِ الناظرين وأطمعت الراغبين.
كان الأستاذ هشام يجعل من المكتبة مكانه الأثير في كل أوقات الفراغ بين الحصص أو قبلها أو بعدها؛ فلم يكن يجلس في حجرة المدرسين إلا قليلا، في البداية كان يقضى وقته مُدَقِّقًا نظره في صفحة كتاب، ثم أصبح بعد أسبوع يجيل النظر بين صفحات الكتاب ووجه أبلة عبير.. ثم أصبح في الأسبوع الثالث يجيل بصره بين صفحات الكتاب وصفحات جسم أبلة عبير، وفي الأسبوع الرابع ألقى الكتاب بل الكتب جميعًا واكتفى بأبلة عبير، التي كانت تسعد بعينيه وهي تقرأ جسدها كلمة كلمة ففتحت له جميع الصفحات.
كان هشام في مقتبل حياته العملية فهذا أول عام في تعيينه، وعبير أمينة المكتبة أم لطفلين، تكبره بعشرة أعوام، زوجها تاجر خشن الطباع يتغيب أسبوعين ويمكث في البيت أسبوعًا.. وهكذا في سفريات بين المحافظات وخارج مصر فتلك طبيعة تجارته.
كانت عبير عطشى لمشاعر الحب، وكان هشام حنونًا للغاية، فالتقى العطش بالنهر الدافق بسرعة هائلة ولم يكن هناك ما يمنع امتزاجهما..
الحصة الأخيرة في يوم الأحد كانت فارغة في جدول هشام.. استأذن هشام بعد أن بدأت الحصة فأُذن له، وبدلًا من أن يمضي إلى خارج المدرسة حملته قدماه إلى المكتبة.. كانت عبير تستعد للانصراف بمجرد أن يدق جرس الحصة الأخيرة.. مع دقة الجرس ينطلق الجميع بسرعة البرق خارج المدرسة مدرسين وتلاميذ وكأنَّ جرس الحصة الأخيرة هو إفراج لمساجين قضوا عقوبة تأبيدة.. دق الجرس وتشاغل هشام بكتاب ينظر فيه ولا يقرأ شيئًا وهو في أقصى ركن بعيدًا عن باب المكتبة.. وكأنَّ ذلك الجرس لا يخصه.. مضى ذلك الأمر بينهما بدقة وتوافق تام كأنهما ينفذان مُخَطَّطًا مدروسًا، ولكن دون أي اتفاق مسبق.. نظرت إليه عبير ولم تنبس ببنت شفة.. ثم قالت في هدوء: سأوقع في دفتر الانصراف وأعود..
وعادت..
دخلت المكتبة وردت الباب وراءها..
كان الباب إذا أُغلق لا يُفتح من الخارج إلا بالمفتاح، والمفتاح الوحيد مع عبير.. أما من الداخل فلا يُفتح بالمفتاح، وإنما من خلال المِقْبَض وقد كان المِقْبَض مبريًّا فلا يفتح بسهولة ويحتاج إلى ضغطة قوية من رجل يحترف ذلك؛ ليجبر الجزء المبري على جذب اللسان، وفي مرَّات عديدة عندما كان الباب ينغلق على عبير أثناء اليوم الدراسي كانت تمرر المفتاح من تحت الباب لأي إنسان في الخارج فيفتحه لها؛ حتى لا ترهق يدها بالتعامل مع المِقْبَض المبري.. رغم هذا ردت الباب خلفها بفعل الهوى وليس الهواء.
- الباب انغلق يا أستاذ هشام.. ماذا سنفعل..؟ لا أحد في الخارج ليفتح لنا..؟
- وحتى لو أن أحدهم في الخارج ليس من اللائق أبدًا أن يرانا منفردين في المكتبة وقد انصـرفت المدرسة كلها، سوف يظن بنا الظنون، سأحاول أن أفتحه .
توجه هشام نحو الباب وبجانبه عبير وكلاهما يتمنى ألا ينفتح الباب أبدًا.. ضغط هشام على المِقْبَض فشعر باللسان ينسحب فأعاد غلقه، ونظر إلى عبير بابتسامة حانية قائلا في صوت متهدج: صعب.. صعب جدًّا.. الباب لن ينفتح بسهولة .
كانت عبير تدرك أن الباب كاد ينفتح في يده ولكنه آثر إغلاقه فابتسمت قائلة: دعني أجرب أنا.. فرفع يده من على المِقْبَض، وامتدت إليه يد عبير فأعاد يده، ليشتركا معًا في القبض على المِقْبَض.. كانت يداهما حانتين على المِقْبَض للغاية، بينما كانتا تتشابكان في نهم شديد، استدعي اليدين الأخريين، لتتحول الحالة إلى عناق كامل.. توقف الكلام تمامًا.. وتكلمت المشاعر.. وانسحبا مبتعدين عن الباب المسكين.. وبالطبع لم ينفتح الباب، حتى انفتحت كل الأزرار والمشابك وغيرها... لم يبق شيء مما يستر الأبدان مغلقًا..
كل الأبواب المنغلقة انفتحت، حتى انفتح باب جهنم على مصراعيه أمامهما، ولم ينفتح باب المكتبة بعد...
كان قد مَرَّ على موعد انتهاء اليوم الدراسي ساعة كاملة، وقد حرص العاشقان على ألا يتسـرب أي صوت ولا همسة خارج المكتبة، لئلا يشعر بهما السيد بَوْلُو الفرَّاش المقيم .
نظرا معًا من بين دلفتي الشباك المطل على حوش المدرسة ليستطلعا الطريق. عبير في المقدمة وخلفها هشام يحتضنها وينظر من فوق رأسها فقد كان أطول منها بمقدار رأسه.
كان بَوْلُو قاعدًا على كرسيه، أعطى المدرَسة ظهره ووجهه إلى الباب، وقد أشعل الشيشة الخاصة به وأخذ يستلذ بأنفاس الدخان.
- لقد نسينا نفسنا يا هشام..
كيف سنغادر المدرسة دون أن يرانا هذا الكلب..؟ قالتها في قلق شديد..
- لا عليك؛ فسوف أتصرف..؟
انضممت إلى أسرة اللغة العربية، ولأنه لا توجد في المدرسة إلا حجرة واحدة لجميع الأسر، فقد كانت تلتقي في تلك الحجرة، وقد اعتدت أن أتلطف في كلامي مع الجميع، وأبتسم في وجوههم مهما اختلفت طباعهم ممتثلًا بيتين من قصيدة كتبتها في بداية حياتي الشعرية :
سَأبْسِمُ للمَصَائِبِ حِينَ تَأتي ** وَلَوْ كَانَ ابْتِسَامًا مُسْتَعَارَا
وَأبْدُو بَيْنَ خَلْقِ اللهِ بَرْدًا ** وَلوَ أشْعَلْتِ بَيْنَ القَلْبِ نَارَا
وهذه الابتسامات جعلتني مقرَّبًا منهم.. مستأمنًا على أسرارهم.. وقد ازدادت هذه الثقة عندما تأكدوا في أول شهر من الدراسة أنني لا أتكالب بل لا أهتم من الأساس بموضوع الدروس الخصوصية، وذلك الموضوع هو حجر الزاوية، بل جميع الزوايا، ومربط الفرس والحمار والبقرة والجاموسة وكل البهائم بالنسبة لهم، فإذا تعفف عنه مدرس، استطاع أن ينال حب الجميع بسهولة؛ إنه يكون أشبه بالشقيق المتنازل عن ميراثه بين أشقاء أشقياء يعبدون المال، وقد نفضوا أيديهم من دفن أبيهم بعدما تكالبوا عليه وقتلوه، وقد كان الجميع بالفعل يَعدون التلاميذ ميراثًا مُهِمًّا ينبغي اقتسامه بعدالة معقولة. هذه الثقة والمحبة جعلت الأستاذ هشام من أسرة الرياضيات يبوح لي بما لا يُبَاح به.
أجمل ما في المدرسة المكتبة، وأجمل ما في المكتبة أبلة عبير، تلك الزهرة التي تزين المكتبة، وديعة هادئة، لديها من الجمال قدر لا بأس به، ولكن رقتها ضافية، وأنوثتها طاغية، فإذا أضفتهما إلى ما تتمتع به من جمال اكتملت الحالة الأنثوية فسَرَّتِ الناظرين وأطمعت الراغبين.
كان الأستاذ هشام يجعل من المكتبة مكانه الأثير في كل أوقات الفراغ بين الحصص أو قبلها أو بعدها؛ فلم يكن يجلس في حجرة المدرسين إلا قليلا، في البداية كان يقضى وقته مُدَقِّقًا نظره في صفحة كتاب، ثم أصبح بعد أسبوع يجيل النظر بين صفحات الكتاب ووجه أبلة عبير.. ثم أصبح في الأسبوع الثالث يجيل بصره بين صفحات الكتاب وصفحات جسم أبلة عبير، وفي الأسبوع الرابع ألقى الكتاب بل الكتب جميعًا واكتفى بأبلة عبير، التي كانت تسعد بعينيه وهي تقرأ جسدها كلمة كلمة ففتحت له جميع الصفحات.
كان هشام في مقتبل حياته العملية فهذا أول عام في تعيينه، وعبير أمينة المكتبة أم لطفلين، تكبره بعشرة أعوام، زوجها تاجر خشن الطباع يتغيب أسبوعين ويمكث في البيت أسبوعًا.. وهكذا في سفريات بين المحافظات وخارج مصر فتلك طبيعة تجارته.
كانت عبير عطشى لمشاعر الحب، وكان هشام حنونًا للغاية، فالتقى العطش بالنهر الدافق بسرعة هائلة ولم يكن هناك ما يمنع امتزاجهما..
الحصة الأخيرة في يوم الأحد كانت فارغة في جدول هشام.. استأذن هشام بعد أن بدأت الحصة فأُذن له، وبدلًا من أن يمضي إلى خارج المدرسة حملته قدماه إلى المكتبة.. كانت عبير تستعد للانصراف بمجرد أن يدق جرس الحصة الأخيرة.. مع دقة الجرس ينطلق الجميع بسرعة البرق خارج المدرسة مدرسين وتلاميذ وكأنَّ جرس الحصة الأخيرة هو إفراج لمساجين قضوا عقوبة تأبيدة.. دق الجرس وتشاغل هشام بكتاب ينظر فيه ولا يقرأ شيئًا وهو في أقصى ركن بعيدًا عن باب المكتبة.. وكأنَّ ذلك الجرس لا يخصه.. مضى ذلك الأمر بينهما بدقة وتوافق تام كأنهما ينفذان مُخَطَّطًا مدروسًا، ولكن دون أي اتفاق مسبق.. نظرت إليه عبير ولم تنبس ببنت شفة.. ثم قالت في هدوء: سأوقع في دفتر الانصراف وأعود..
وعادت..
دخلت المكتبة وردت الباب وراءها..
كان الباب إذا أُغلق لا يُفتح من الخارج إلا بالمفتاح، والمفتاح الوحيد مع عبير.. أما من الداخل فلا يُفتح بالمفتاح، وإنما من خلال المِقْبَض وقد كان المِقْبَض مبريًّا فلا يفتح بسهولة ويحتاج إلى ضغطة قوية من رجل يحترف ذلك؛ ليجبر الجزء المبري على جذب اللسان، وفي مرَّات عديدة عندما كان الباب ينغلق على عبير أثناء اليوم الدراسي كانت تمرر المفتاح من تحت الباب لأي إنسان في الخارج فيفتحه لها؛ حتى لا ترهق يدها بالتعامل مع المِقْبَض المبري.. رغم هذا ردت الباب خلفها بفعل الهوى وليس الهواء.
- الباب انغلق يا أستاذ هشام.. ماذا سنفعل..؟ لا أحد في الخارج ليفتح لنا..؟
- وحتى لو أن أحدهم في الخارج ليس من اللائق أبدًا أن يرانا منفردين في المكتبة وقد انصـرفت المدرسة كلها، سوف يظن بنا الظنون، سأحاول أن أفتحه .
توجه هشام نحو الباب وبجانبه عبير وكلاهما يتمنى ألا ينفتح الباب أبدًا.. ضغط هشام على المِقْبَض فشعر باللسان ينسحب فأعاد غلقه، ونظر إلى عبير بابتسامة حانية قائلا في صوت متهدج: صعب.. صعب جدًّا.. الباب لن ينفتح بسهولة .
كانت عبير تدرك أن الباب كاد ينفتح في يده ولكنه آثر إغلاقه فابتسمت قائلة: دعني أجرب أنا.. فرفع يده من على المِقْبَض، وامتدت إليه يد عبير فأعاد يده، ليشتركا معًا في القبض على المِقْبَض.. كانت يداهما حانتين على المِقْبَض للغاية، بينما كانتا تتشابكان في نهم شديد، استدعي اليدين الأخريين، لتتحول الحالة إلى عناق كامل.. توقف الكلام تمامًا.. وتكلمت المشاعر.. وانسحبا مبتعدين عن الباب المسكين.. وبالطبع لم ينفتح الباب، حتى انفتحت كل الأزرار والمشابك وغيرها... لم يبق شيء مما يستر الأبدان مغلقًا..
كل الأبواب المنغلقة انفتحت، حتى انفتح باب جهنم على مصراعيه أمامهما، ولم ينفتح باب المكتبة بعد...
كان قد مَرَّ على موعد انتهاء اليوم الدراسي ساعة كاملة، وقد حرص العاشقان على ألا يتسـرب أي صوت ولا همسة خارج المكتبة، لئلا يشعر بهما السيد بَوْلُو الفرَّاش المقيم .
نظرا معًا من بين دلفتي الشباك المطل على حوش المدرسة ليستطلعا الطريق. عبير في المقدمة وخلفها هشام يحتضنها وينظر من فوق رأسها فقد كان أطول منها بمقدار رأسه.
كان بَوْلُو قاعدًا على كرسيه، أعطى المدرَسة ظهره ووجهه إلى الباب، وقد أشعل الشيشة الخاصة به وأخذ يستلذ بأنفاس الدخان.
- لقد نسينا نفسنا يا هشام..
كيف سنغادر المدرسة دون أن يرانا هذا الكلب..؟ قالتها في قلق شديد..
- لا عليك؛ فسوف أتصرف..؟
ما رأيك بالموضوع !
0 تعليق: